ويجب أن يذكر الآباء أن التربية تكتسب من البيت؛ لأنها عادات نفسية ومرانات اجتماعية، فلا يمكن المدرسة أن تعود الصبي أو الشاب الشجاعة أو الكياسة، ولكن الآباء يمكنهم هذا بالقدوة والتدريب، وقد ينتظر القارئ أن نقول: إن المدرسة للتعليم، وهي كذلك إلى حد ما، ولكن التعليم أكبر من المدرسة والجامعة، فكلتاهما تعطي المواد والمعارف، ولكنها لا تغرس عادة التعليم بالذهن الحر المفتوح، ولا تبسط الآفاق التي يجب أن يأخذ أحدها مكان الآخر عند الإنسان المتطور في مجتمع متطور؛ لأننا يجب أن نتعلم طوال حياتنا وأن نتخرج كل عام تخرجا جديدا من جامعة الحياة إلى أن نموت، والآباء هم خير من يغرس هذه العادة.
وليس هنا مقام النقد للمواد في المدارس أو الجامعات؛ فإن هذا الموضوع يستحق كتابا مستقلا، ويستطيع القارئ أن يقرأ كتابي «التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» إذ يجد هناك الإسهاب الذي يحتاج إليه هذا الموضوع.
وأخيرا، لو قيل لي: ما هي الجملة التي يمكن أن تعد شعارا للتربية الحسنة؟ لأجبت: أعط أطفالك أقصى ما تستطيع من حرية مع أقصى ما تستطيع من رعاية الحب الوجداني، ولكن تجنب التدليل كما تتجنب الاضطهاد؛ لأن كليهما يؤدي إلى الفساد، بل إلى الإجرام، وتجنب القسوة لأنها تمنع الطفل من الابتكار والاختراع وتغرس فيه الجبن، ثم تحيله في المستقبل قاسيا مع أبنائه.
تجنب التدليل لأن الطفل المدلل كثيرا ما ينتهي إلى الانتحار؛ لأنه لم يدرب على مواجهة الصعوبات؛ ولذلك سرعان ما تخور عزيمته أمام المجهود الشاق، وتجنب ضرب الطفل؛ لأن الضرب يحيله جبانا ذليلا ينشأ في إحجام وتردد وخجل، وهو يعرف فيك أنت الأب الرجل الأول، وسوف يقيس الرجال على ما لقيه منك؛ فإذا كنت قد أخفته فإنه سيخاف الرجال ويخجل ويتراجع، ولا يجرؤ ولا يقتحم، ولا تخش عناد الطفل، فقد يرجع إلى التدليل، ولكن اذكر أن العناد برهان على الإرادة القوية، فلا تقتل هذه الإرادة التي ربما تكون في المستقبل سبب نجاحه. وقد يكون في عناد الطفل بذرة المثابرة عندما يبلغ الشباب.
وأخطاء الأمهات في تربية الأطفال كثيرة:
فإن الأم - بطبيعتها - تحب أن تربط أطفالها بها، فتبالغ في حمايتهم وهي لا تدري أنها بهذه المبالغة تؤذيهم؛ لأنهم يتعلقون بها أكثر مما يجب، ويكرهون الخروج والاقتحام، ويخشون الغرباء، وينشئون على عادة الاتكال على غيرهم بدلا من الاستقلال.
ومن المألوف كثيرا أن يعيش الطفل مع أمه نحو خمس أو ست سنوات وهو يأخذ دون أن يعطي، وينشأ على هذه العادة كأن من حقه في المجتمع أن يأخذ فقط، والمجتمع يصده ويصدمه؛ لأنه يطالبه بأن يعطي، وهو يبتئس ويعد نفسه مظلوما بهذه الحال؛ ولذلك يحتاج الأطفال جميعهم إلى أن يكلفوا عملا أو خدمة لقاء ما يعطونه، حتى ينشئوا على الأخذ والعطاء معا، وليس على الأخذ فقط.
والأم عادة تطري طفلها عندما يؤدي عملا حسنا وتوجهه بذلك وجهة ذاتية، فيزداد أنانية ويقيس الأشياء والاعتبارات والقيم بما لها من سرور أو ألم في نفسه، ويجب على الأم لذلك أن تطري العمل أو تذمه بدلا من أن تطري الطفل نفسه؛ لأنه بذلك يتجه وجهة موضوعية سديدة. «أسلوب الحياة». من العبارات التي يجب أن نذكرها دائما في تربية الأطفال؛ فإن لكل منا أسلوبا يتبعه حين يكون في الخمسين أو الستين من العمر، هو في الأغلب امتداد لذلك الأسلوب الذي تعلمه من أبويه أو زوجة أبيه في السنوات الأربع الأولى من العمر؛ فإذا رأيت مثلا زوجة كثيرة الغيرة تلتهب وتحتدم عندما تجد زوجها يخاطب سيدة أخرى، فثق أن هذا الأسلوب قد تعلمته وهي طفلة قبل أن تتم الرابعة من عمرها، تعلمت أن تلتهب وتحتدم عندما كانت تجد أمها تلتفت إلى أخيها وتعنى به بدلا من أن تعنى بها هي، وكانت أمها تستطيع أن تعالجها من هذه الغيرة لو أنها مثلا كانت تعطيها الرياسة وتوزيع الحلوى، وتكسبها بذلك كرامة تغنيها عن الأنانية والاستئثار.
والطفل المدلل الذي تعود العدوان بلا خوف سيبقى على هذا الأسلوب وهو في الستين من عمره، يمارس العدوان والخطف ولا يبالي مصلحة الغير.
والطفل المضطهد الذي ضرب وحرم في طفولته، من زوجة أبيه، سينشأ وهو يعامل كل فرد من أفراد المجتمع كما لو كانوا جميعهم يمثلون زوجة أبيه، يعاملهم باللؤم والخبث والوقيعة والدس والكراهة، أو هو قد ينكسر ويرضى بالهوان وينفصل من المجتمع.
Unknown page