وشاهد رابع نجده في الألفاظ المشتركة التي يطلق الواحد منها على مسميات متباينة كل التباين: كما يطلق لفظ العين على منبع الماء والعضو المبصر والدينار، ويطلق لفظ الكلب على الحيوان المعروف وعلى الشعر، ويطلق لفظ المشتري على قابل عقد البيع وعلى الكوكب الذي في السماء ... وغيرها كثير في جميع اللغات. فههنا ليس للفظ مدلول خاص، ولكن العقل يخصص المدلول في كل حالة تبعا لإدراكه هو. وإذا قلنا إن هناك وجه شبه هو الأصل في الاشتراك، رجعت هذه الألفاظ إلى المشكلة وبقيت النتيجة التي نريد أن نبينها، وهي أن فعل العقل هو الأول وأن اللفظ أداة ليس غير.
بل إن استقلال التعقل عن اللفظ يظهر من وجود معان دون ألفاظ، وهذا ما يسميه علماء النفس المعاصرون بالفكر الضمني
، ويضربون له شتى الأمثلة: منها الشعور بالذات وبالحرية وبالتبعة، والمواقف العقلية الناجمة عن أمثال هذه الأقوال: انتظر، اسمع، انظر؟ والشعور بالانتباه والعجب والشك وبالسهولة أو الصعوبة بإزاء مهمة ما، والانتقاد الصامت لما نقرأ أو نسمع أو نرى، والشعور بالوضوح، والشعور بالاتفاق أو الاختلاف بين أمور عدة معروضة علينا، والشعور بالتردد بين فكرتين أو بين عاطفتين أو بالانتقال من الواحدة إلى الأخرى، واختمار الأفكار والعواطف في اللاشعور قبل أن يتعين ويطلق عليها اسم، والفكرة الفجائية تخطر لشخص يجيد عدة لغات ويحب اللغة التي يعبر بها عن فكرته. فكيف يزعم الزاعمون أن المعاني ألفاظ وأن التفكير تنسيق ألفاظ؟ إن هذا البحث في التصور الساذج ليدل الدلالة القاطعة على بطلان المذهب الحسي وكم سنصادف من أدلة قاطعة فيما يلي من بحوث!
الفصل الثاني
الحكم
(1) تعريف الحكم
قلنا إننا لا ندرك الأشياء بجميع خصائصها وأعراضها دفعة واحدة، ولكننا ندرك الأعراض والخصائص شيئا فشيئا باستخدام حواسنا وإعمال الفكر، فنحلل الشيء إلى معان عدة ونحن نعلم أن هذه الكثرة متحققة فيه، فنردها إليه في قول يعلن أنها له، مثل قولنا: «سقراط فاضل»، ويسمى هذا تركيبا. وقد نخطئ فنضيف إلى الشيء ما ليس له، فإذا تبينا خطأنا عدنا فاستبعدنا عن الشيء تلك الإضافة في قول يعلن أنها ليست له، مثل قولنا: «ليس سقراط كافرا»، ويسمى هذا فصلا أو تفصيلا باعتبار المقصود منه وهو الاستبعاد، ولكنه تركيب أيضا من حيث إنه تأليف بين معينين في صيغة سالبة.
هذا التركيب الموجب أو السالب مغاير للمعنى المركب المتصور دون إيجاب أو سلب، فليس تصورنا «الإنسان الشجاع» كتصورنا «هذا الإنسان شجاع»: في التصور الأول معنيان مؤلفان في ماهية واحدة، وفي التصور الثاني تقرير بأن المعنى المضاف موافق للشيء المعبر عنه بالمعنى المضاف إليه (أو غير موافق له). فالحكم يقتضي ثلاثة أفعال تمهد له: وهي تصور معنيين، والمضاهاة بينهما، وإدراك ما بينهما من نسبة توافق أو عدم توافق، فيعقب الحكم هذا الفصل الثالث توا، فإن إدراك النسبة مجرد العلم بإمكان إضافة معنى إلى آخر، وماهية الحكم الإضافة فعلا والتصديق بالنسبة.
أما أن الحكم تركيب بين معنيين، وأن التصور الساذج سابق عليه، فهذا ما يبدو واضحا وما قيل به أزمنة متطاولة. لكن بعض علماء النفس المعاصرين ارتأوا أن الحكم تصور إجمالي نحلله إلى المعاني المؤلفة له، أي إننا ندرك أولا كل موقف جملة ونعبر عنه بقضية، مثل: «أمشي» و«أعطي»، ثم ندرك جزأي القضية ونحصل على معنيين، فالمعنى الواحد يركب بحكم أو بجملة أحكام. هذا الرأي قائم على سوء فهم: فإنه إذا لم يكن تمايز جزأي الحكم سابقا عليه امتنع الحكم وامتنع التعبير عنه في قضية لعدم توافر المعاني والألفاظ التي نؤلف بينها، والتي يجب أن يكون لكل منها في ذهننا مدلول محدد مستقل عن مدلول الآخر. وإدراك موقف ما جملة هو إدراكه بوساطة ما لدينا من معان، فتعقل طرفين سابق على الجمع بينهما، وإلا كان الجمع عبثا. والأمر واضح للغاية في الحكم السالب؛ فإن المسلوب غير موجود، فلا يمكن أن يقال إننا ندركه في تصور تركيبي ثم نحلل هذا التصور إلى جزأيه، والمعنى الذي يكتسب بحكم أو بعدة أحكام مسبوق ضرورة بمعان أبسط منه تركب منها هذه الأحكام.
هذا التركيب يجيء إيجابا أو سلبا. والإيجاب متقدم عموما على السلب؛ لتقدم الوجود على اللاوجود، ولتقدم إدراك الوجود على إدراك اللاوجود، ولما هو بين من أن السلب، لاحتوائه على أداة سالبة في العقل وفي اللفظ، فهو أعقد من الإيجاب، والأعقد متأخر عن الأبسط. وإذا سلمنا أن الحكم السالب احتجاج على حكم موجب ممكن، كما يقول برجسون، وأنه من ثمة متأخر عنه، كان هذا من الوجهة النفسية فقط، أي باعتبار كيفية صدور الحكم السالب، لا من الوجهة المنطقية أو الميتافيزيقية، أي باعتبار قيمة الحكم السالب، فلا نتابع رأيه أن الحكم الموجب منصب على الموضوع، وأن الحكم السالب تعليمي واجتماعي يصدر للإنكار: إن الحكم، موجبا أو سالبا، يفترض أننا قد وضعنا مسألة وضاهينا بين معينين، وهذه المضاهاة يمكن أن تحدث في بادئ الأمر في قضية سالبة بحيث يقع السلب على الموضوع كما هو الشأن في الحكم الموجب. فمن هذه الناحية نضع الحكم السالب والحكم الموجب على قدم المساواة، ونقول إن قسم حكم إلى موجب وسالب هي قسمة جوهرية.
Unknown page