فلا اختلاف على نقص القوانين الطبيعية، أي على أخذها بالتقريب دون الضبط المحكم الذي يمتنع فيه الخطأ كل الامتناع، وإنما الاختلاف على النتائج التي يرتبونها على هذه النظريات والملاحظات. فما هي نتيجة العلم بأن القوانين الطبيعية لا تفسر لنا حركات الكون وسكناته إلا على وجه التقريب؟
هل نتيجة ذلك أن نسقط حساب الأسباب والعلل ونلغي القوانين الطبيعية؟
إن بلانك نفسه لا يقول بذلك ويقرر في كتابه (إلى أين يذهب العلم؟)
7
أن الأسباب الطبيعية عاملة في كل حال وأنا لو حققنا موضع كل كهرب وسرعته ووزنه أمكننا أن نعرف حركته التالية بغير خلل في الحساب، فإذا كانت مراقبة الملايين من الكهارب تعطينا نتيجة تقريبية فالنقص ناشئ من جهلنا بحالة كل كهرب على صدق لا من خلل القوانين الطبيعية.
ولا يرى المعقبون على رأي بلانك في هذه المسألة أنه قد حسم بها خلافا ذا بال. إذ لا خلاف على أن المقدمات جميعها تؤدي إلى جميع نتائجها، وإنما الخلاف في إمكان الحصر والاستقصاء، ويتساوى بعد ذلك عالم المادة وعالم الروح، فإن العلم بكل المقدمات في عالم الروح يؤدي كذلك إلى العلم بجميع النتائج على وجه التحقيق.
ولم يفت بلانك أن يستدرك ذلك في كتابه المتقدم ذكره، فقال معقبا على الآراء الحديثة في السببية وحرية الإرادة:
الواقع أنه في هذا العالم الواسع الذي لا يحده القياس - ونعني به عالم العقل والمادة - توجد نقطة واحدة، نقطة لا ينطبق عليها العلم ولا ينطبق عليها أسلوب من أساليب البحث، وستظل كذلك لا من الوجهة العملية وحسب، بل من الوجهة المنطقية كذلك: تلك النقطة هي الذات الفردية، فإنها لصغيرة في رحاب الوجود، ولكنها في ذاتها عالم كامل يحيط بحياتنا العاطفية كما يحيط بمشيئتنا وفكرتنا، وهذا الكون الذاتي هو مصدر لأعمق أحزاننا وأرفع أفراحنا، ولا سبيل عليه للقوى الخارجية، ولا نحن قادرون على إطراح سلطاننا عليه وتبعاتنا نحوه إلا حين نطرح الحياة نفسها.
ثم قال:
وتذكر أن لابلاس كان يرى أنه لو وجد عقل سام بمعزل عن جميع العوامل في هذا الكون أمكنه أن يتبع العلاقات السببية في جميع حوادث الإنسان والطبيعة إلى أدقها وأخفاها. وإنما بمثل هذا السمو يتسنى للإنسان أن يصل إلى العزلة والاستقلال وأن ينفصل الباحث من موضوع بحثه عند البحث في سريرة نفسه، ولا بد من هذا الفصل كما رأينا لتطبيق مقاييس السببية والاستقرار. وكلما اقتربنا من الحوادث تعذر النفاذ إلى أسبابها، وكذلك كلما اقتربنا من الحوادث التي تدور عليها تجاربنا الشخصية زادت صعوبة الدرس في ضوء تلك الحوادث، إذ كان الذي يتولى الملاحظة هو نفسه موضوع الملاحظة، ومن المستحيل في هذه الحالة تمييز العلاقات السببية لأن الأسباب والمسببات هنا لا فاصل بينها ... وما من عين تستطيع أن ترى نفسها، ولكنه بمقدار ما يختلف الإنسان اليوم عما كان عليه منذ سنوات، يستطاع بعض الاستطاعة أن توضع تجاربه أمامه موضع التعليل والتفسير، وإنما أذكر هذا كأنه تمثيل للمبدأ في عمومه.
Unknown page