84

وهو لم ينفك يتكلم عن وصول الخصيان، وعن تقدم منفذ ملاذ جلالته، الذي كان من أطول سادة البلاط وأكثرهم قوة، وقد ذهب ما قال كنديد وما صنع أدراج الرياح، فقد عطرت ساقاه ورجلاه وفق العادة، ويأتي به أربعة خصيان إلى المكان المعد للاحتفال بين صفين من الجنود، وعلى صوت آلات الموسيقا والمدافع وضجيج مساجد أصبهان، وكان الصفوي قد حضر، ومعه أهم رجال البلاط وأعظمهم وجاهة، ويمدد كنديد من فوره على مقعد صغير مذهب كله، ويستعد منفذ أدق الملاذ للقيام بعمله.

ويقول كنديد - وهو يبكي ويصرخ بما أوتي من قوة: «لو كنت هنا يا بنغلوس الأستاذ، يا بنغلوس الأستاذ»، وكان يعد هذا البكاء مع الصراخ مخالفا للأدب، لو لم يوكد ذاك التقي أن محميه سار على هذا الأسلوب زيادة في تسلية جلالته، والواقع أن هذا الملك الكبير كان يضحك كالمجانين، حتى إنه بلغ من التلذذ بمنظر الجلدات الخمسين ما أمر معه بخمسين جلدة أخرى، غير أن وزيره الأول عرض عليه بجرأة غير مألوفة، كون هذه الحظوة التي لم تسمع بمثلها أذن، مما قد يحول قلوب رعاياه، فألغى أمره، وأعيد كنديد إلى مأواه.

ويوضع على السرير بعد أن غسلت رجلاه بالخل، ويأتي العظماء لتهنئته واحدا بعد الآخر، ثم يأتي الصفوي لا لمد يده إلى كنديد ليقبلها - على حسب العادة - فقط، بل ليضربه على أسنانه بجمع كفه أيضا، ويحزر رجال السياسة أن كنديد ينال حظا لا مثيل له تقريبا، ولم يخطئوا في ظنهم، وإن كان عدم الخطأ نادرا عند رجال السياسة.

الفصل الرابع

ما ناله كنديد من حظوات جديدة، ارتقاؤه

ويشفى بطلنا، فيدخل على الملك ليقدم إليه شكره، ويحسن هذا العاهل قبوله، ويلطمه مرتين أو ثلاث مرات في أثناء الحديث، ويقوده إلى قاعة الحرس راكلا ألييه عدة مرات، ويكاد الندماء يموتون حسدا، ولم يحدث منذ أخذ صاحب الجلالة يضرب المقربين إليه، أن نال أحد شرف ضربه بمقدار ما نال كنديد.

وتمضي ثلاثة أيام على هذه المقابلة، فينصب كنديد واليا على خوزستان، مع سلطان مطلق، ينصب فيلسوفنا الذي كان يجن بما يلاقي من لطف، ويجد كل شيء يسير إلى سيئ، ويزين بقلنسوة من فرو، أي: بما يعد علامة امتياز في فارس، ويودع الصفوي الذي ينعم عليه بألطاف أخرى، ليسافر إلى السوس التي هي مقر ولايته، وما فتئ أعاظم المملكة يأتمرون بكنديد ليهلكوه منذ ظهوره في البلاط، ولم تؤد الألطاف المتناهية التي غمره بها الصفوي إلى غير تكبير الزوبعة التي تفقس على رأسه، ومع ذلك فقد سر بطالعه، وابتعاده على الخصوص، وقد تذوق - مقدما - ملاذ المقام الرفيع، وكان يقول في قرارة نفسه: «من السعادة البالغة أن يبتعد الرعايا عن مولاهم!»

ولم يكد كنديد يبتعد عن أصبهان عشرين ميلا، حتى أغار عليه وعلى زمرته خمسمائة فارس مدجج بالسلاح، ويعتقد كنديد دقيقة أن هذا لإكرامه، ولكن الرصاصة التي حطمت ساقه أخبرته بالحقيقة، ويلقي رجاله سلاحهم، وينقل وهو بين الحياة والموت إلى حصن منعزل، ويغنم الغالب أمتعته وجماله وعبيده وخصيانه البيض وخصيانه السود والنساء الست والثلاثين اللائي أنعم الصفوي عليه بهن لاستمتاعه، وتقطع ساق بطلنا خشية الغنغرة، وتحفظ له حياته، كيما يصاب بموت أشد فظاعة. «أي بنغلوس، أي بنغلوس! ما يصبح تفاؤلك إذا ما أبصرتني ذا ساق واحدة بين يدي أقسى أعدائي، وذلك بينما كنت أسلك سبيل السعادة، بينما كنت أبدو حاكما، أو ملكا لأهم ولايات الإمبراطورية، لمادي القديمة، بينما كنت أملك جمالا وعبيدا وخصيانا بيضا وسودا وستا وثلاثين امرأة لاستمتاعي، ستا وثلاثين امرأة لم أتمتع بهن بعد ...»

فبهذا الأسلوب، كان يتكلم كنديد منذ استطاع أن يتكلم.

وبينا كان غارقا في الحزن حالفه حسن الطالع، وذلك أن الوزير نبئ بالاعتداء الذي أصيب به، فأرسل - على عجل - كتيبة من المقاتلين لتعقب العصاة، وأمر التقي صدر الديوان أتقياء آخرين بأن يذيعوا أن كنديد من صنع الله؛ لأنه من صنع الأتقياء، ومن كانوا على علم بهذا الاعتداء كشفوه بهمة؛ لما كان من توكيد أئمة الدين باسم محمد، أن كل من أكل لحم خنزير، أو شرب خمرا، أو قضى عدة أيام من غير غسل، أو أتى نساء في أيام حيضهن، خلافا لنصوص القرآن الصريحة، يغفر له حتما إذا ما أخبر عن المؤامرة، ولم يلبث سجن كنديد أن كشف، فاقتحم وأبيد المغلوبون وفق الشريعة، ما دامت المسألة مسألة دين، ويسير كنديد على كتلة من القتلى، متفلتا من أعظم خطر عرض له متغلبا عليه، مستأنفا مع حاشيته طريقه إلى حكومته، حيث استقبل كصاحب حظوة، أكرم بخمسين ضربة سوط على أخمص قدميه أمام ملك الملوك.

Unknown page