وإذا كانت مقاومة من يقاوم العلمانية بفتح عينها مصيبة، فالمصيبة أعظم فيمن يقاومونها بكسر العين؛ لأن عينها إذا كسرت، كانت الإشارة عندئذ إلى العلم وإلى الحياة التي تقيمها العلوم، فهل يرضيكم - أيها السادة - أن نزرع أرضنا بغير علم، وأن ندير مصانعنا بغير علم، وأن ننشئ مدارسنا وجامعاتنا لغير العلم، وأن نعد عدتنا العسكرية بغير العلم؟ هل يرضيكم - أيها السادة - أن نمحو أسماء العلماء من تاريخنا، فلا يكون فيهم بعد اليوم جابر بن حيان ولا الخوارزمي ولا ابن الهيثم ولا ابن النفيس؟ وإذا رأيتم في هؤلاء وأمثالهم مواضع فخر لأنهم رجال أقاموا للعلم قوائمه، فلماذا لا تريدون لأحفادهم المعاصرين أن يعيدوا سيرتهم الأولى؟ لا، محال أن يكون هذا هو ما تبتغونه، ومحال أن تكون سهامكم موجهة إلى العلم في حياتنا، وإذن فماذا يبقى للعلمانية - إذا كسرت عينها - لتحاربوه، ومرة ثانية أقول إنني لا أبالي أن يكون في صدور الدعاة إلى العلمانية بكسر عينها، شر مكتوم يريدون به حياتنا الدينية، على افتراض جاهل منهم بأنه إذا كان علم فلا دين! فقد ذهبت عن الناس غفلة استبدت بهم حينا طويلا من الدهر في بلادنا وفي بلاد الغرب كذلك حين لعب الشيطان بعقولهم فأوهمهم أن لا مصالحة بين علم ودين، فإذا قام أحدهما غاب الآخر، ذهبت عن الناس هذه الغفوة لأن الإنسان إنسان بدينه وبعلمه معا، وارجع إلى كتاب الله الكريم وإلى حديث رسوله - عليه أفضل الصلاة والسلام - وانظر في كم موضع يأتي الحض على العلم، بل إننا لنعرف ذلك جيدا، ونعيده ونكرره فيما نكتبه وما نذيعه في الناس، فقل لي بالله: من ذا الذي يحاربونه أولئك الذين يحاربون العلمانية وهي مكسورة العين؟ على أنني أود أن أضيف هنا أنه لا وجود في لغتنا - قديمها وحديثها معا - لهذه الكلمة، فدورانها على الأقلام - إذن - هو وهم يضاف إلى وهم، ليكتنف حياتنا وهم مركب.
إن الحياة الفكرية كما عاشها أسلافنا كان معظمها يدور حول محور نعرفه جميعا ونريده جميعا، ونعلمه لطلابنا، ونتحدث عنه في محاضراتنا، ونعرضه في مؤلفاتنا، وذلك المحور هو محاولة التوفيق بين العقل والنقل - كما كان يقال - أما العقل فكان المراد به هو ما ورد في الفلسفة اليونانية التي نقلوا الجزء الأكبر منها إلى اللغة العربية، وأما «النقل» فكان المراد به قريبا جدا مما نطلق عليه اليوم اسم «التراث»، ولكن أهم ما كانوا يقصدون إليه في «المنقول» هو الشريعة، فكان السؤال عندهم هو هذا: هل هناك تعارض بين ما جاء في شريعة الإسلام من جهة وما ورد في الفلسفة اليونانية من جهة أخرى؟ ولم يكونوا ليجيبوا عن سؤالهم هذا إجابة عشوائية، بل جاءت إجابتهم - أو قل إجابة الكثرة الغالبة منهم - نتيجة دراسة تحليلية دقيقة، وخلاصتها هي أنه لا تناقض بين الطرفين، فما تقوله الشريعة بلغتها هو هو نفسه ما تقوله الفلسفة اليونانية بلغتها، أعني أن الشريعة والفلسفة قد تضع كل منهما ما أرادت أن تقوله في مفاهيم تتناسب مع سياقها، لكننا إذا ما حللنا تلك المفاهيم عند هذه وعند تلك، وجدنا الحق واحدا بينهما، ولا غرابة فالحق لا يتعدد.
فإذا أردنا اليوم أن نصنع في حياتنا الفكرية صنيع أسلافنا؛ فكيف يكون ذلك؟ الإجابة عندي واضحة وضوح الشمس الساطعة، وهي أن تدور حياتنا الفكرية على المحور نفسه الذي دارت عليه حياة أسلافنا، وأعني النظر في موروثنا نظرة الدارس الفاحص، وأن ننظر فيما عند الثقافات الأخرى، لا سيما ما يكون منها عند صناع الحضارة الحديثة في عصرنا نظرة الدارس الفاحص كذلك، لنرى كيف يكون التوفيق بين الطرفين، إذا كان ذلك التوفيق ممكنا وحيثما وجدناه ممكنا، إن «أوروبا» بالنسبة إلى أسلافنا كانت هي اليونان القديمة، وثقافة أوروبا في ذلك العهد أيضا كانت هي ما عرفه أهل اليونان من فلسفة وعلم (وكان لهم أدبهم، لكن العرب غضوا عنه النظر)، فهل يتغير الموقف في جوهره، إذا كانت أوروبا قد مدت أجنحتها عبر الأطلسي، ليصبح الغرب هو أوروبا وأمريكا معا، ثم إذا كان لهذا الغرب في صورته الجديدة علوم ظهرت في صورة جديدة، تغاير علوم اليونان الأقدمين، وإذا كان له فلسفة حديثة قد لا تكون شبيهة كل الشبه بفلسفة اليونان الأقدمين؟ لست أظن أن شيئا في الموقف - مأخوذا بجوهره - قد تغير، وإذن يكون انتهاجنا نهج أسلافنا هو أن نلتمس صيغة ثقافية جديدة، نجمع فيها رحيقا إلى رحيق في إناء واحد.
فإذا كان هذا الجمع بين الرحيقين هو نفسه ما يطلقون عليه اسم «العلمانية» بعين مفتوحة، فأهلا بها، وإذا كان هو ما يسمونه بهذا الاسم بعين مكسورة، فمرحبا بها، إن الأسماء لا تسكنها العفاريت فأخشاها، إنني أخشى أو لا أخشى ذلك الذي تسميه تلك الأسماء، إذا وجدت في المسمى ما أخشاه، فهل أخشى أن يكون هذا العالم الجديد موضوعا لاهتمامي، في علومه وفي آدابه وفي فنونه، وفي كثير من نظمه. إن حياة الحي هي أن يتفاعل مع ما يحيط به، أخذا وعطاء، فما الذي يخيفني من العلمانية، فتحت عينها أو كسرت، إنه بفتحها تكون دعوة إلى الاهتمام بعالمنا الذي نعيش فيه، وبكسرها تكون دعوة إلى العلم، وكلتا الدعوتين معلنتان في عقيدة الإسلام وشريعته.
لست ألزم أحدا بأن يستعين في حياته الفكرية بالعادات التي نشأت أنا عليها في حياتي الفكرية، ووجدت فيها عونا كبيرا في زيادة الوضوح وحسن الفهم، ومن تلك العادات أن أطالب نفسي، إذا وجدتني أمام فكرة فيها بعض الغموض، بالبحث عن شخص بعينه أو موقف بعينه، يجسد تلك الفكرة المراد توضيحها، وكثيرا ما أوفق في ذلك فتتحول الفكرة المجردة إلى إنسان معين أعرفه وأعرف خصائصه ومميزاته، فينزاح عن الفكرة المجردة تجريدها، وعن الفكرة الغامضة غموضها، فمن الذي أراه - يا ترى - يجسد لنا بشخصه المتعين ذلك الضرب من اللقاء بين تراثنا ومنتجات عصرنا في دنيا الفكر؟ إن أول من يرد إلى خاطري كلما ألقيت علي هذا السؤال: هو طه حسين، فإلى جانب مؤلفاته ذات القيمة الكبرى، أرى في شخصه ما هو أهم منها فيما نحن الآن بصدد الحديث فيه، وأعني بذلك طريقته في الجمع بين موروثنا وروح عصرنا، أما موروثنا فلا أظن أحدا يجادل في سعة إلمامه بذلك الموروث، إلماما فيه الدقة وفيه الفهم، وأما روح العصر فظاهر في منهجه وفي رؤيته وتصوره، والآن فلنعد إلى موضوعنا لنسأل: هل كان طه حسين «علمانيا» بفتح العين أو بكسرها، من الناحية التي يراها المهاجمون بلاء يشين من صاحبه، إنه رجل كان موفور الحظ في العلم، وشديد الميل إلى التفاعل مع عالمه، فهل تدرجه هاتان الصفتان فيما يراه المتشنجون حقيقا بأن يقاوم حتى يزول.
وأسوق مثلا آخر لرجل جمع في شخصه الحسنيين، وربما كان أبعد من طه حسين عن إثارة القلق، وهو الشيخ مصطفى عبد الرازق، فهو الآخر يلم بالموروث إلماما يجعل ذلك الموروث على أطراف أصابعه، وهو في الوقت نفسه يحيط بأهم ما دار في عقول علماء الغرب، في ميدان تخصصه، وهو لم يضع هذا إلى جانب ذاك، كما نضع مصوغات الذهب إلى جوار مصوغات الفضة في صندوق، بل مزج الجانبين في نفسه وتكون له من المزيج منهج ورؤية وتصور. فهل هذه الوقفة المتزنة تدرجه في «علمانية» مفتوحة العين أو مكسورتها، بالمعنى السيئ الذي يهاجمه المهاجمون؟ إنني - حقا وصدقا - لا أدري ، ولقد أنباني من أنباني أن كاتبا مصريا من هؤلاء المجاهدين قد ذكرني في صحيفة عربية، أعني صحيفة مما يصدر في بلاد الخليج ، فقال عني إنني واحد من هؤلاء العلمانيين، وليتني أسمع منه ما يوجهني إلى موضع الخطأ مني لأصححه، أهو أني ألممت بأطراف من موروثنا وبأطراف من نتاج العصر ومزجت الجانبين معا في صيغة واحدة؟ لو كان الأمر كذلك، إذن فهو تشريف لا أستحقه ومكانة لا أدعيها.
إننا إذا عدنا بالذاكرة إلى المناخ الفكري في عصورهم الوسطى، لرأينا أن النموذج المجسد الذي يوضح ذلك المناخ، والذي كان هو نفسه النموذج الذي جاءت نهضة أوروبا لتطيح به وتقيم مكانه نموذجا آخر، هو الراهب الزاهد، ومن هنا انبثقت الدعوة عند النهضة إلى «علمانية» تفتح الآفاق واسعة لينفتح للناس أمل في مستقبل جديد، وحدث بالفعل أن انبثق للأوروبيين في نهضتهم نموذج بشري آخر، هو الذي وضعناه فيما أسلفناه، وقد يدهش الأخوة المهاجمون لما يسمونه بالعلمانية إذا عرفوا أن ذلك النموذج الجديد الذي ولدته النهضة الأوروبية ليحل محل الراهب الزاهد كان من أهم ما يتميز به في بناء ثقافته الجديدة العودة إلى الأدب الكلاسي عند اليونان الأقدمين! والعجيب الذي يلفت النظر هو أنهم اعتبروا إحياء الأدب الكلاسي ذلك «رومانسية» تثير الخيال في مبدعاتهم الجديدة، فالعلماني بالمعنى الذي عرفه أصحابه لا يعني التنكر للموروث، بل العكس هو الصواب؛ لأن إحياء ذلك الموروث يتضمن عدة معان يكون العلماني علمانيا بها، فهناك جانب الانتماء، وهناك جانب الخروج من صوامع الرهبان.
ليس في كل ما قدمته إليك هنا دفاع عن أحد ولا هجوم على أحد، ليس فيه تشيع لمذهب وتنكر لمذهب، وإنما قصدت إلى هدف واحد، هو أن يكون المدافعون عن «العلمانية» بيننا، والمهاجمون لها، أكثر حرصا على أن يتثبتوا ليعلموا عن أي شيء يدافعون أو يهاجمون.
الفصل السابع عشر
سلطان الكلمات
Unknown page