هذا سائق مدرب ما في ذلك شك؛ فرخصة قيادة سيارة نقل لا تمنح إلا بصعوبة شديدة وبامتحان عسير وبعد فترة طويلة من العمل كسائق. ها هو ذا قادم على الطريق، وأمامه ومن بعيد كان يرى شريط السكة الحديد وهو يتقاطع مع الطريق الزراعي الذي يسلكه، بل حتى كان ممكنا لو هو يقظ بدرجة كافية أن يرى القطار قادما في الأفق من بعيد، ولكن لنكن عادلين ولنصل معه إلى اللحظة التي وصل فيها إلى «المزلقان» ووجد الأجراس تدق والنور الأحمر يطفأ ويوقد علامة القطار القادم؛ الطبيعي تماما أن يوقف العربة حينذاك وينتظر مرور القطار، ثم يتأكد أن ليس هناك قطار آخر قادم، ثم يعبر. هكذا يفعل الناس في أي مكان وزمان، وللإنصاف نقول إنه فكر في الوقوف أول الأمر ولكنه لم يفعل، و«ظن» أن القطار ليس وشيك القدوم، بدليل أنه لا يراه؛ فضغط على البنزين واقتحم الإشارة. إن العربة تعلم الناس السرعة، هذا صحيح؛ فهي اختراع ولدته الحاجة إلى السرعة. وكل سائق في العالم يريد أن تنتهي رحلته بأسرع ما يمكن حتى ولو لم يكن وراءه عمل ملح عند نهايتها؛ هذه كلها أحاسيس إنسانية نشعر بها جميعا، ومن المؤكد أن صراعا صغيرا نشب في عقل السائق بين أن يوقف العربة كما تقضي القواعد وحكم الأمر الواقع، وبين أن يقتحم الإشارة رغم احتمال أن يصطدم بالقطار. احتمال واه، هذا صحيح، ولكنه موجود. ومن المؤكد أن الصراع حسم بسرعة لمصلحة مواصلة السير؛ هو عارف بالخطر إذن ولكنه ينحي معرفته جانبا ويمر! من أين جاءته الثقة أن الخطر لن يدهمه؟ على أي شيء اعتمد أنه سينجو؟ لا يستطع هو نفسه لو سألته أن يجيبك، وأيضا لا نستطيع نحن؛ فكل منا قد واجه موقفا كهذا مرة، ولا بد أن كلا منا ولو لمرة واحدة قد تصرف برعونة كما فعل السائق واقتحم الخطر، معتمدا على أن شيئا ما أو قوة ما ستحميه وتنقذه! هذا الاعتماد اليقيني الغريب الذي يزودنا بثقة لا حد لها، ويشبه تأكيد أننا حتما سننجو، هو المسئول الأول عن كل الكوارث التي تحيق بنا. فنحن نرى الخطر ماثلا أمامنا واحتمالاته قوية، ومع ذلك نتعامى عنه ونلغيه من وعينا ونغمض أعيننا عن أن ترى الخطر، وكأننا بمجرد التعامي عنه نلغيه من الحقيقة. والواقع، كل العالم المتقدم يدرس الوضع من جميع نواحيه، فإذا اشتم رائحة خطر ما فإنه أبدا لا يخاطر أو يغامر أو يتعامى عنه، ولكنه يحسب حسابه تماما ويأخذ حذره ويتفاداه، إلا نحن، ابتداء من القرارات الكبرى كقرار حشد الجيش في سيناء عام 1967 إلى أصغر قرار كقرار ذلك السائق أن يعبر شريط السكة الحديد اعتمادا على إحساس قدري أن شيئا لن يحدث، وأنه من غير المعقول أن يؤدي الأمر إلى صدام مع القطار. مع أن غير المعقول هذا هو الأقرب إلى العقل وإلى الاحتمال، وهو الذي يحدث غالبا وتكون نتيجته نكسة 67 أو حادث التصادم عند بنها.
إن النبي محمدا عليه السلام يقول لصاحب الناقة: «اعقلها وتوكل.» أي اربطها أولا كي تتأكد أنها لن تتحرك ثم بعد هذا توكل على الله في أمر بقائها.
بمعنى آخر، مفروض أننا إزاء الخطر ندرك أبعاده ونحذر منه ونتخذ كافة الاحتياطات اللازمة لحمايتنا أولا، ثم نسلم أمرنا لله بعد ذلك، ولكننا في أغلب الأحيان لا نفعل هكذا، إنما «بفهلوة» غريبة، باعتماد على ثقة مجهولة أن شيئا لن يمسنا، نعرض أنفسنا للخطر، ونستغرب بعد هذا إذا أصبنا وكأن تلك القوى المجهولة قد غدرت بنا وخانتنا. إنه في رأيي نوع من الهروب من مواجهة الواقع نفسه باعتبار أن الخطر جزء لا يتجزأ من الواقع. نحن نعيش نحلم بواقع من صنعنا، وحتى لو واجهنا الخطر فنحن نتعامى عن كل ما حولنا من واقع.
وكم من آلام نتحملها نتيجة هذا الموقف، وكم من نصائح! ولكن الغريب أننا - بعد - لم نتعلم أن نرى الواقع، وأن نرى ما فيه - إن كان فيه - من مخاطر، ونحتاط لها، وأبدا لا نتعامى عنها معتمدين على قوى خرافية مجهولة ستحمينا وتنقذنا.
أرقام فلكية
كنا نتحدث عن الثانوية العامة، فهذا موسمها، وكان شريكي في الحديث الصديق الدكتور أحمد سامح همام «أول دفعتنا في كلية الطب وأستاذ جراحة الأوعية الدموية بقصر العيني». والحقيقة فوجئت حين ذكر لي أن على أيام جده (وجده كان من عائلة طيبة بالمنيا) كان النجاح في البكالوريا (ثانوية زمان) يعني أن يذهب عساكر البوليس ويأخذوا الناجح بالقوة إلى المديرية، ثم يرحل إلى القاهرة تمهيدا لإرساله في بعثة إلى الخارج فورا ليكمل دراسته الجامعية؛ إذ لم تكن هناك جامعة في مصر. ذلك أن عدد الناجحين في بكالوريا ذلك الوقت لم يكن يتجاوز عدد أصابع اليدين، وربما أقل؛ ولهذا كانت الحكومة ما تكاد تظهر النتيجة حتى تبادر «بالقبض» على الناجحين لإرسالهم فورا في بعثات إلى الخارج. وكان الشاطر هو الذي يستطيع بالوساطات أو بالشفاعات أو بالرشوة أن يفلت من قبضة الحكومة فيفرج عنه ولا يرسل في بعثة، أو يكمل تعليمه الجامعي، أما سيئ الحظ الذي لا حول له ولا قوة ولا وساطة له، فهو الذي يرسل رغما عنه إلى أوروبا ويعود حاملا الليسانس أو ربما الدكتوراه!
وأذكر مرة أني قرأت في باب «الأهرام من 70 سنة» أن عدد الناجحين في الشهادة الابتدائية آنذاك كان خمسين طالبا في كل أنحاء القطر المصري.
واليوم نجد أن عدد المتقدمين للثانوية العامة حوالي 182 ألف طالب، ينجح منهم ما لا يقل عن المائة ألف وأكثر. في الثانوية العامة ينجح فقط مائة ألف، وعدد المتقدمين للشهادة الابتدائية قد يناهز المليون، أي أننا في خمسة وسبعين عاما تضاعف عدد تلامذتنا مائتي ألف مرة. ترى ماذا سيحدث في عام 2000 مثلا؟
من خمسة وسبعين عاما لم تكن المجتمعات تعرف التخطيط وتتنبأ بما ستصير عليه الزيادات، أما اليوم فنحن نحيا في عصر التخطيط، فإذا لم نكن قد خططنا في الماضي لهذه الزيادات الفلكية في أعداد التلاميذ، فهل في نيتنا حقيقة أن نخطط للحاضر وللمستقبل، وخاصة إذا عرفنا أن هذه الأعداد أقل بكثير مما يجب أن تكون عليه؛ إذ إن نسبة الأمية عندنا زادت حتى أصبحت 70٪ وهو رقم مخيف في حد ذاته، ولا يدل على تخطيط إلى الأمام وإنما يدل على تراجع إلى الخلف؛ فقد كانت النسبة أقل من هذا بكثير قبل عشر سنوات مثلا؟
أعتقد أن مشاكل التعليم وما يحتاجه من إعداد وسائل للتربية، ومدرسين مؤهلين، ومدارس مناسبة، لا يكفي لحله نشاط أو اجتماعات المجلس القومي للتعليم. أعتقد أن الأمر بحاجة إلى مؤتمر جاد كبير يبحث ويناقش ويحدد كيف نعلم أولادنا اليوم وكيف سنعلمهم غدا وبعد غد؛ مؤتمر يستمع إلى آراء الأطفال والتلاميذ؛ مؤتمر جامع شامل. أعتقد أن هذا قد أصبح واجبا ملحا وعاجلا؛ فإني أرى أن طريقتنا في مواجهة هذه الأرقام الفلكية من زيادات الطلبة لم تتعد كثيرا طريقتنا في مواجهتها أيام كان عدد الناجحين في الثانوية العامة لا يتجاوز عدد أصابع اليدين.
Unknown page