وقد أنصف الخليفة عمرا وأحسن جزاءه بتوليته على مصر بعد فتحها وتنظيم شئونها على أثر الحروب التي أفسدت فيها كل صالح، وبدلت فيها كل نظام، فحرص عمرو جهده على مرضاة الخليفة واستبقاء رأيه فيه، وكان من الولاة القليلين الذين طال عهدهم بالولاية في خلافة الفاروق.
قيل: إن الفاروق استوصف عمرا مصر فكتب إليه يقول:
إن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر ميمون الغدوات، مبارك الروحات، يجري بالزيادة والنقصان، كجري الشمس والقمر، له أوان تظهر به عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا عج عجاجه وتعظمت أمواجه لم يكن وصول بعض القرى إلى بعض إلا في خفاف القوارب وصغار المراكب، فإذا تكامل في زيادته نكص على عقبه، كأول ما بدأ في شدته وطما في حدته، فعند ذلك يخرج القوم ليحرثوا بطون أوديته وروابيه: يبذرون الحب ويرجون الثمار من الرب، حتى إذا أشرق وأشرف، سقاه من فوقه الندى وغذاه من تحته الثرى، فعند ذلك يدر حلابه، ويغني ذبابه، فبينما هي يا أمير المؤمنين ورقة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء وإذا هي زبرجدة خضراء، فتعالى الله الفعال لما يشاء. والذي يصلح هذه البلاد وينميها ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفق في المبتدأ والمآل.
فإن لم يكن هذا الكلام من نص كلامه فهو من صميم رأيه وعيانه لا مراء، والذي لا خلاف فيه أن الفاروق تلقى منه وصفا لمصر يشبه هذا الوصف، ودليلا على الدراية بها يشبه هذا الدليل، وأن عمرا أخلق الناس أن يحذر في عهد الفاروق «سعي الخسيس بالرئيس»، وهو الذي يعلم أنه مستهدف لمثل هذا السعي، وأنه ملاق به شيئا من القلق الدائم في ساحة الفاروق، وهو العظامي الذي كان يتعصب للنسب تعصب المأخوذ بالريب، ويتقي كلمة السفلة فيقول: «إن ذهاب ألف من العلية أهون ضررا من ارتفاع واحد من السفلة!»
وربما كان من الإغراق في الرجاء أن يطمع وال من الولاة في الإفلات من حساب الفاروق، بالغا ما بلغ نصيبه من الحرص والإحسان، وإن أحق الناس أن يعلم ذلك لهو عمرو بن العاص الذي يعلم حساب الفاروق للولاة، ويسمع بمراجعته للمحسن منهم والمسيء، فما نحسبه ترقى بطمعه في هوادة «ابن حنتمة» - كما كان يسميه بلسان الغيظ والإعجاب - إلى أبعد من البقاء في الولاية، مع الأهبة الدائمة للجواب عن كل جليلة ودقيقة من أعماله التي تنمى إلى دار الخلافة. وقد ظفر بما أراد وظل فخورا بهذا الظفر بقية حياته، يقول لمن لا يعجبه حكمه: إن الفاروق قد مات وهو عنه راض! وحمد الله أنه لم يحاسب في عهده بأكثر مما حوسب عليه، ومن أمثلته - فيما نقلته كتب السير - حسابه على مال الخراج، وحسابه على غلطة طائشة لابنه محمد، وحسابه على إعفاء عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب من بعض القصاص في حد الشراب!
كتب إليه الفاروق في أمر الخراج يعجب من قلته ومن «أن مصر لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه من الخراج قبل ذلك، على غير قحط ولا جدب!» فرد عليه عمرو في لهجة شديدة وأنفة يعلم موقعها من نفس عمر الذي لا يبالي أن يخاطبه الكبار والصغار مخاطبة الأنداد ما حفظوا مع ذلك حق الله وحق المسلمين، وجدد عمر الكتابة إليه يؤنبه على إبطائه مع كثرة الكتب إليه، ويقول له: «إني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك، ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك!»
وطالت المكاتبة بين الخليفة وواليه، وتسايرت الأنباء بفاشية من المتاع والرقيق والآنية والحيوان، فشت لعمرو في مصر لم تكن له قبل ولايتها، فعمد الخليفة إلى حزمه المعروف، وأنفذ إلى عمرو أمينه على العمال محمد بن مسلمة يعلنه أنه قد ساء به ظنا، وأنه مقاسمه ما عنده من المال، وجعل له مائتي دينار جزاء عمله غير العطاء الذي ربط له أسوة بالمجاهدين من المسلمين.
أما حساب الخليفة له على غلطة ابنه محمد، فخلاصته أن عمرا أجرى الخيل، فأقبلت فرس رجل من المصريين، فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: فرسي ورب الكعبة! ثم اقتربت وعرفها صاحبها، فغضب محمد، ووثب على المصري يضربه بالسوط ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين! وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوهما المصري، فحبسه زمنا حتى أفلت وقدم إلى الخليفة يرفع إليه مظلمته ... فاستقدم الخليفة عمرا وابنه، وقال للمصري: دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين! ثم قال له: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، ففزع عمرو واعتذر المصري قائلا: قد ضربت من ضربني! والتفت الخليفة إلى المصري يقول له: «أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه.» ثم إلى عمرو بن العاص يقول تلك الكلمة التي تعد من جلائل الأعمال، ولا تحصى في جلائل الأقوال وكفى: «أيا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!»
ولقد حاسبه على إعفاء ابنه - أي ابن الخليفة - كما حاسبه على إعفاء ابنه هو من الجزاء الذي استحقه بالعدوان على بعض رعاياه؛ فقد ذهب عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب إلى عمرو يبلغه أنه شرب مسكرا، ويطلب إليه أن يقيم الحد عليه، فتغاضى قليلا ثم أذن بحده على أن يعفى من حلق رأسه على مشهد من العامة، فجاءه التأنيب من الخليفة مع البريد يقول فيه: «عجبت لك يا بن العاص ولجرأتك علي وخلاف عهدي ... فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الله في بيتك وتحلق رأسه في بيتك، وقد عرفت أن هذا يخالفني؟ إنما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين.»
وإن واليا ينجو من الفاروق بهذا القسط من الحساب على هذه المسائل وأشباهها لمجدود بين الولاة!
Unknown page