46

Camil Sirri

العميل السري: حكاية بسيطة

Genres

عاد للحديث مجددا: «لا، لم يكن ذلك ما أفكر فيه. لا شك في درايتك بعملك؛ لا شك على الإطلاق؛ وذلك بالتحديد السبب في أنني ...» توقف لبرهة، ومغيرا نبرته قال: «ما الأدلة الحاسمة التي يمكنك تقديمها ضد ميكايليس؟ أعني بصرف النظر عن حقيقة أن الرجلين المشتبه فيهما - أنت متأكد من أنهما كانا رجلين - أتيا من محطة سكك حديدية تبعد ثلاثة أميال من القرية التي يعيش فيها ميكايليس الآن.»

استعاد كبير المفتشين رباطة جأشه، وقال: «هذا في حد ذاته كاف لنا، يا سيدي، كي نتحرى حول رجل كهذا.» نجحت حركة الموافقة الطفيفة التي أبداها المفوض المساعد برأسه بقدر كبير في تهدئة الدهشة المتسمة بالاستياء البادية على الضابط الشهير. وذلك لأن كبير المفتشين هيت كان رجلا لطيفا، وزوجا وفيا، وأبا مخلصا؛ وكانت ثقة العامة وإدارته اللتان كان ينعم بتعاملهما معه باستحسان بناء على طبيعة ودية، قد جعلته يشعر بالود تجاه المفوضين المساعدين المتعاقبين الذين كان قد شاهدهم يمرون عبر تلك الغرفة تحديدا. كان ثلاثة قد تعاقبوا عليه خلال فترة عمله. كان يمكن تدبر الأمر مع الأول، الذي كان يتصف بأنه ذو طبيعة عسكرية، وطبع حاد، ووجه أحمر وحواجب بيضاء ومزاج سريع الانفعال، بالتعامل معه بحذر شديد لتجنب إثارته. غادر منصبه عندما وصل إلى سن التقاعد. أما الثاني، الذي كان رجلا محترما للغاية، يحفظ مقامه ومقام الآخرين بدقة، فعند استقالته لتولي منصب أعلى خارج إنجلترا، حصل (بالفعل) على وسام بناء على خدمات المفتش هيت. كان العمل معه مدعاة للفخر والسرور. أما الثالث، الذي كان غامضا إلى حد ما من البداية، فكان لا يزال بعد ثمانية عشر شهرا غامضا نوعا ما للعاملين بالإدارة. إجمالا اعتقد كبير المفتشين هيت أنه غير مؤذ بوجه عام، غريب المظهر، لكنه غير مؤذ. كان يتحدث الآن، وكان كبير المفتشين يستمع إليه بإجلال ظاهري (وهذا لا يعني شيئا، كونه أمرا واجبا) وبصبر جميل في قرارة نفسه. «هل أبلغ ميكايليس الشرطة قبل أن يغادر لندن إلى الريف؟» «نعم يا سيدي. فعل ذلك.»

تابع المفوض المساعد، الذي كان على علم تام بتلك النقطة: «ترى ماذا يفعل هناك؟» كان ميكايليس، الذي كان يجلس على مقعد خشبي قديم ذي ذراعين ضيق لا يكاد يسعه، أمام طاولة من خشب البلوط نخرها السوس في غرفة علوية في كوخ من أربع غرف له سقف من قرميد نمت عليه الطحالب، عاكفا على الكتابة ليل نهار بيد مرتعشة مائلة «السيرة الذاتية لسجين» التي كان من المفترض أنها ستكون مثل سفر رؤيا في تاريخ البشرية. كانت ظروف المساحة الضيقة والعزلة والوحدة في كوخ صغير من أربع غرف مواتية لإلهامه. كان الأمر يشبه كونه في سجن، عدا أن المرء لم يكن يتعرض البتة للإزعاج من أجل الغرض البغيض المتمثل في أداء تمرينات وفقا لما تمليه اللوائح التعسفية لمقر إقامته القديم في السجن. لم يكن بوسعه أن يميز إن كانت الشمس لا تزال تلقي بأشعتها على الأرض أم لا. كان جبينه يتصبب بعرق جهد العمل الأدبي. وحثته حماسة مبهجة على المتابعة. كان بمثابة تحرير لنفسه الداخلية، وإطلاق لعنان روحه نحو عالم واسع. وبدا حماس الغرور البريء (الذي اتقد بداية بعرض بقيمة خمسمائة جنيه إسترليني من ناشر) قدرا مقدورا وأمرا مقدسا.

ألح المفوض المساعد إلحاحا غير صريح، قائلا: «سيكون من المستحسن للغاية، بالطبع، أن أطلع على المجريات بدقة.»

قال كبير المفتشين هيت، دون أن يخفى عليه الغضب الذي تجدد مع هذه المطالبة بالدقة، إن شرطة المقاطعة قد أخطرت على الفور بوصول ميكايليس، وأنه يمكن الحصول على تقرير كامل في غضون ساعات قليلة. برقية إلى رئيس الشرطة ...

قال ذلك، ببطء نوعا ما، بينما بدا أن عقله كان في الوقت نفسه يقدر العواقب. كان انعقاد خفيف لحاجبه هو العلامة الظاهرية على ذلك. لكنه قوطع بسؤال. «هل أرسلت هذه البرقية بالفعل؟»

أجاب، وكأنه فوجئ بالسؤال: «كلا يا سيدي.»

أنزل المفوض المساعد ساقه من فوق الأخرى فجأة. تناقضت خفة تلك الحركة مع الطريقة العرضية التي طرح بها سؤاله. «هل تظن أن ميكايليس له أي علاقة بتحضير تلك القنبلة، مثلا؟»

تظاهر كبير المفتشين بالتفكير. «ما كنت لأقول ذلك. لا حاجة لقول أي شيء في الوقت الحالي. إنه على صلة برجال مصنفين بأنهم خطرون. اختير ممثلا للجنة الحمراء بعد أقل من سنة من الإفراج المشروط الذي حصل عليه. نوع من المجاملة، على ما أظن.»

وضحك كبير المفتشين بقليل من الغضب، وقليل من الازدراء. مع رجل من ذلك النوع، كان التدقيق تصرفا في غير موضعه، بل حتى شعورا غير قانوني. كان صدره قد ضاق من الشهرة التي حظي بها ميكايليس عند خروجه من السجن منذ عامين بسبب بعض الصحفيين العاطفيين بداعي الحاجة إلى إصدار طبعات خاصة. كان القبض على ذلك الرجل استنادا إلى أدنى شبهة قانونيا تماما. كان قانونيا ومناسبا في ظاهره. كان رئيساه السابقان سيفهمان المغزى على الفور؛ أما هذا فجلس في مكانه، دون أن يؤيد ذلك أو يعارضه، وكأنه غارق في أحلامه. علاوة على ذلك، بالإضافة إلى كون القبض على ميكايليس قانونيا ومناسبا، فقد حل مشكلة شخصية صغيرة أقلقت كبير المفتشين هيت بعض الشيء. أثرت هذه المشكلة على سمعته وعلى راحته وحتى على كفاءته في أداء واجباته. وذلك لأنه إذا كان ميكايليس يعلم دون شك شيئا عن هذا الانفجار، كان كبير المفتشين متأكدا تماما من أنه لا يعرف الكثير. كان هذا أمرا جيدا، حتى إن لم يكن ما توقعه. كان كبير المفتشين متيقنا من أنه كان يعرف أقل بكثير من أفراد معينين آخرين كان يضعهم في حسبانه، ولكن القبض عليهم بدا غير مناسب من وجهة نظره، بالإضافة إلى كونه مسألة أعقد، بناء على قواعد اللعبة. لم توفر قواعد اللعبة الكثير من الحماية لميكايليس، الذي كان مدانا سابقا. سيكون من الحماقة عدم استغلال التسهيلات القانونية، والصحفيون الذين كانوا قد كتبوا عنه بفيض من العاطفة سيكونون على استعداد للكتابة عنه بسخط نابع من العاطفة.

Unknown page