Caller to Monotheism Muhammad ibn Abd al-Wahhab
داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب
Publisher
دار العلم للملايين،بيروت
Edition Number
الثالثة
Publication Year
تشرين الثاني (نوفمبر) ١٩٨٦م
Publisher Location
لبنان
Genres
مقدمة
داعية التوحيد محمد بن عبد الوهاب
تأليف: عبد العزيز سيد الأهل
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [يونس الآيات: ١٠٤-١٠٧] .
1 / 5
تقديم
كانت ثورة الإمام أحمد على ردة المعتزلة والجهمية نابعة من صفوف الأمة ضد ما انحرفت نحوه الدولة ورجالها من الأفكار التي تحطم الدين وتفرق الصفوف. ولم تكن ضد نظام الدولة ولا أمنها ولا مبايعة خلفائها.
وقد كان جديرًا برجال الحكم أن يؤيدوها ويعتنقوا مبادءها لأنها كانت في عونهم على النجاة من التفكك والانحدار، غير أنهم عادوها وأخذوا بالتنكيل بها وأسرفوا غاية الإسراف.
ومهما يكن الخليفة المتوكل قد بدأ بإخماد الفتنة وعمل على إحياء السنة فإن الآراء التي تسربت إلى فكر الأمة لم يصبح من اليسير طردها ولا التخفيف من وطأتها، بل إنها لم تلبث أن أصبحت من أفلاذ علوم المسلمين التي اشتغلت بها مدارس علم الكلام.
وسارت الأفكار خليطًا من الصحيح والفاسد والنقي والكدر على مدى أزمنة طويلة فانطبع الناس عليها وصارت في جملتها كأنها دينهم الذي يدينون به. ولم يكن في قدرة الجهل والتأخر أن تعين العقول على التنقية لتسلم المعرفة، فمضى الأمر على سجيته حتى كان القرن السابع الهجري الذي نضجت فيه مدرسة حران.
1 / 7
بسبب التفرق والانقسام العدائي كان خير معوان لحب التجمع مهما حدث من التردد الذي كان الدافع إليه حب الحياة وعزة السلطان، وحيث يكون المجال مفتوحًا لإمكان إقامة منظمة جديدة تلم شمل القبائل تحت عقائد كانت تعرفها وتؤمن بها وليست غريبة عنها فيكون الأمر أقل مشقة وأكثر قبولًا.
أما أن ينسب إلى الحضارة وأدواتها أنها ربما قامت عوائق في طريق الدعوات الدينية والاجتماعية السليمة -ومن أجل ذلك تفاداها ابن عبد الوهاب- فإنه غير صحيح، إذ ربما كانت هذه الحضارة أيسر تسخيرًا في التوصيل السريع والنشر العاجل أكثر مما تفعله شواسع الأمكنة وجفوة الطباع في البوادي التي لم تدخلها الحضارات، ولكن لم يوجد من يجسر على التجريب.
وهذا كله لو افترضت نجد بادية كلها، ولكنَّ نجدًا كانت ما بين حاضرة كثيرة القرى وبادية ذات عيش رتيب، وكان عيش الحضر رغدًا وأدوات الحضارة وألوانها يأتي بها تجارهم من بلاد الترك ومصر والشام وفارس واليمن والهند، وعند أهلها صناعات الأسلحة والحياكة وصياغة المعادن، وكانوا على رفاهية في الطعام والشراب وفي عناية باقتناء الجواهر واختيار الثياب وأثاث البيوت. وأما البدو فكانوا في غنى بأنعامهم وخيامهم وكان لنسائهم شركة مع الرجال في أمور المعيشة وتنظيم الخيام.
وتجارات نجد كان يجلبها أهل نجد لا الغرباء عنهم وهم قوم ذوو طاقة عجيبة على مزاولة الأسفار والأعمال، وقلما يوجد فيهم من هو راكن إلى الكسل والراحة، ولا يستبعد الرحالة السفار منهم أي بلد ولو كان الصين، كما لا يستطيل أي زمن ولو كان دهرًا طويلًا. ثم لا يؤوب إلى موطنه في نجد إلا بعد أن يقضي حاجاته من الارتحال.
1 / 8
ولما كانت نجد في قلب الجزيرة العربية وكانت محوطة من كل جهاتها بالقبائل والحواضر المستقلة فقد كلف نجدا في انتصارها على هذه النطاقات المحيطة بها تضحيات كثيرة غالية في الأموال والأرواح. فلم تكن الدعوة أسهل وأيسر بها مما لو كانت في غيرها كما ظن بعض المؤرخين، ولكن هذا التوسط في الجزيرة مكّن نجدًا من التحرك القوي للانتصار، إذ لم يكن لهذه الجهات المبعثرة حولها أن تتألف منها وحدة تهاجم نجدا لتحاجزها بعضها عن بعض بهضاب نجد، ولولا الحرب الوهابية التي جاءت من خارج الجزيرة بعدد وعديد لما خمد للوهابية حينا سراج.
وفي المراحل الأولى لغزو القبائل والبلاد كان وجه الدعوة كله وهابيًا سوى أن اليد كانت سعودية، فظهر الجد في الدعوة الذي سماه بعضهم عنفًا وسماه الجهلاء بحقائق الدين بدعة. وكان مبعث هذا الجد أو العنف أن الدعوة دينية في أساسها والسياسة تسايرها وتسندها فلم يكن هناك مجال لمراعاة المشاعر المنحرفة مهما كانت هذه المشاعر قد أصبحت من الأمور المقدسة عند أصحابها.
وكانت الوهابية ذات نظرة عامة فلم تفترض المسلمين منقسمين بين الفرق الكبرى والمذاهب التي تتوزع كل فرقة من هذه الفرق، بل افترضت المسلمين وحدة واحدة، ولم يكن يصح أن تتهم الوهابية بأنها كانت ضد الإسلام ولا ضد رسوله العظيم أو آل بيته الأكرمين.
فلما كانت المراحل الأخيرة إبان الحرب العظمى كانت الوهابية قد لبست أثوابًا سعودية من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وكانت السياسة والدين قد اصطحبا في دولة وسارا معا يراعيان بعض الرفق الذي تعودته مشاعر الناس، وما دامت الأنظمة والقوانين تسير طبقًا لأنظمة الملة الإسلامية وقوانينها فليس من بأس بذلك الرفق بعد أن عرف العالم الإسلامي كله أن الوهابية فيما فعلت لم تكن تريد غير إرجاع الأمة عن الردة التي
1 / 9
خرجت إليها عن التوحيد الصافي.
ومن قبل الوهابية وقف عمر بن عبد العزيز ﵀ في عزم وشدة ضد كل عمران يراد به الزينة والأبهة دون الحصب والإنتاج، وكان العدل عنده وإسعاد الناس أولى من هندسة المدن وتنظيمها وترميم المساجد وتذهيبها، فلم يجدد كسوة الكعبة حين بليت وباع سلاسل الذهب من مسجد دمشق وعوضها صفرًا وحديدًا، وكان يريد طمس كل زينة في المسجد، حتى عرف أنه صار شوكة في عين الروم فتركه باقيًا بزينته وغناه.
وكذلك أرادت الوهابية والسعودية، ولكن الأمر حين صار إلى السياسة فعلت كما فعل عمر، وكان حين دخل سعود الأكبر ابن عبد العزيز حاجا إلى مكة لأول مرة في عام ١٢٢٧ هـ دخل إليها حاملا كسوة الكعبة من العباء الثمين الذي يغزل من الصوف ويجلب من الحساء.
ومحمد علي وتركيا معا قد جنيا الشوك من جراء الحرب الوهابية، فَقَدْ فَقَدَ محمد علي من جنده وماله كثيرًا، وأوقع مصر في فقر وضنك وخراب -وسنأتي على وصفه في الباب الأخير بالكتاب من كلام المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي معاصر هذه الحروب- ولم يجد محمد علي ما كان يأمله من ثروة في بلاد العرب في الجنوب الذي كان انصرف إليه حينا، ثم لم تشفع له انتصاراته لدى الباب العالي، بل تعقدت المشاكل بينهما، وبان أن الأتراك أوقعوا والي مصر في مشكلة لا تحل، ولم تكن في صالحهم أو صالحه سواء حلت أو تعقدت، لأنها أعضل من أن تسهل أو تهون. ومن ناحية الفكر فقد صار الجدل في حركة الإصلاح على كفتي
1 / 10
وعلى ضوء ساطع بنظر سليم وحجة راجحة سار بنو تيمية وخفقت في آخر مسيرتهم راية تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الذي أفرغ جهده في التنقية والتصفية والتخريج، واعتزم في جد وصرامة أن يبعثر الركام المختلط ليكشف عن حقيقة الشريعة الصافية، فصرخ الناس في وجهه وأصلَوْهُ بنار عداوتهم. وكان حراس هذا الخليط المضطرب من رجال الحكم ورجال الدين، فأصلَوْهُ عداوتهم على سواء.
غير أن مبادئ الثورة التي أشعلها الإمام أحمد وصولة الحق في أصوات المدرسة الحرانية كانت ذات أثر بالغ فحثت قلوب البصراء على البحث والنظر حتى تتكشف حقيقة المبادئ الصافية التي جاء بها الإسلام أول ما جاء وآخر ما ترك. فلما كان محمد بن عبد الوهاب كانت النفوس على استعداد لقبول دعوته تحت ضوء السراج الذي أشعله الإمام أحمد وبنو تيمية، وعلى استعداد أيضًا لردها ومحاربتها رضوخًا للجبال المركومة فوق الرؤوس من الآراء والجهالات.
أما البصراء فقد قبلوا وأما المتلفعون بأردية الباطل فقد رفضوا، ولكن الدعوة وجدت سبيلها- برغم أعدائها ورافضيها -إلى المضي والنفوذ. وكذلك تم بها للحنابلة خط سليم من المنطق والعقل، كانت مقدمته أحمد بن حنبل وكان وسطه بني تيمية وكانت النتيجة محمد بن عبد الوهاب، في قضية مستقيمة لم تتعدد طرقها ولم تنعرج، بل سارت في طريق محكم قويم.
ومما صار علمًا لدى الناس تسمية حركة الإصلاح التي قام بها ابن عبد الوهاب بالمذهب الوهابي وإطلاق الوهابية على المذهب وعلى الحروب التي شنت على أهله -ولا سيما حملات محمد علي خاصة- ومن الحق أن تطلق الوهابية على كل الحروب التي جرت في الجزيرة العربية وفي خارجها
1 / 11
منذ بدأت دعوة الإصلاح إلى أن قامت الدولة السعودية الثالثة والقائمة الآن.
وإطلاق الوهابية كما أطلقت على حركة الإصلاح والحروب التي خاضتها كانت من الخصوم لا من الأصحاب، ولكنها مهما كانت تسمية بغيضة إلى نفوس أولئك المصلحين فإنه لقب يبدو في ذاته غير بغيض، إذ هو نسبة إلى الوهاب الذي هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولعل إطلاقه -من غير إرادة الخصوم- كان بشرى انتصار المصلحين بما رزقهم الوهاب من نصر وتأييد.
والوهابية -كما سنظل ندعوها كذلك في كتابنا -لم تكن مذهبا جديدا في الإسلام ولا زائدا على مذهب أهل السنة، وإنما كانت حركة إصلاح ديني دعت إليها سيرة الحنابلة في ثورتهم على ردة المعتزلة والجهمية وفي تنقيتهم ركام الجهالة ومحاربة ما ابتدع في الإسلام من أفكار وطقوس.
وانصب غرض الإصلاح على تنقية العقيدة الإسلامية مما لحق بها من الشبهات فكرا وعملا والرجوع بها إلى أصلها كما كان يعرف السلف الصالح.
أما الفروع فقد أحيت المذهب الحنبلي لمواءمته للأصول، ولكنها وهي دعوة لم تبتدع فقد كانت غريبة على النفوس فكأنها كانت جديدة لم تعرف من قبل، لما غمر الناس من فساد الاعتقاد وانحراف الطباع ومناسك التعبد والتقرب. فلم يكن بد -وهي دعوة قديمة يتجدد إهابها- من أن يعتبرها صاحبها دعوة جديدة فيسلك بها الطريق التي تبدأ من أوله الدعوات حتى يضمن لها الفوز والثبات.
ولم تمس الدعوة جوهر الإسلام، إذ هو لا يقبل إصلاحا يمس جذوره، لأنه واسع حر، وفيه لكل من أراد أن يجد غنى ووفرة وحياة. والقوانين الخلقية والعادات التي أورثها الإسلام بنيه كانت دائما عوامل زاجرة قادرة على ردع الإنسان عن الإذعان لاندفاعات خاطئة.
وعناصر الثبات في هذه الزواجر في قدرتها أن تهيمن على الطباع والعادات
1 / 12
والزي والرأي، وفي مكنونها أن تستيقظ لدفع الانحرافات التي تدخل عناصر السلوك.
ولقد حاول كثير من كتاب التاريخ والاجتماع أن يربطوا بين الدعوة الوهابية والبداوة، ولاح لهم أن قسوة الدعوة لم يلائمها إلا البادية الجافة والبداوة القبلية دون المدن وحضاراتها، وهو ربط يبدو أنه خاطئ أو باطل، إذ الدعوة الوهابية هي الدعوة الإسلامية ذاتها والتي نشأت أول ما نشأت في مكة، وكانت مكة والمدينة من بعدها وسطا تجاريا متحضرا ضخم التعقد في حضارته، وكانت الكتل البشرية التي تشترك فيه مؤلفة من أجناس وأديان شتى، ومع ذلك فلم يقل أحد أنه كان أولى بهذه الدعوة أن تنشأ في البادية أولا.
وقد ثبتت صلاحية الإسلام لكل الأمكنة والأزمنة، لا بادعاء الإسلام لنفسه، ولكن بالنظر من أهله وغير أهله في سمو مبادئه وصلاحية نظامه لكل المجتمعات، ومن وراء التجارب السعيدة التي مرت بالشعوب التي اعتقدته صافيا ونفذت مبادءه.
ومن ثم وجب أن لا يقال شيء غير أن محمد بن عبد الوهاب لارتباطه بأهله وتاريخ بيته بالبادية بشكل شعوري أو لا شعوري فجعل موطن ولادته مسرحًا للقيام بدعوته والسهر على تطبيقها لم يجد بدًا من أن يبدأ دعوته فيها، ولو كان الوضع مختلفًا وكان هو ابنًا من أبناء الحضر لبدأ دعوته به ولكان كأحد الأفذاذ الذين دعوا في الحواضر فنجحوا أو أخفقوا.
وإنما يجوز أن يقال فيما بعد -استنباطًا من النجاح الذي ظفرت به الدعوة -أن التفكك الذي كان بالجزيرة والإحساس بالضعف والهوان
1 / 13
ميزان، وعرف -حين أفصح الصبح- أن اتهام الوهابية ورميها بأنها مبتدعة كان كذبًا وتضليلًا، فخسر محمد علي وخسرت تركيا مرة ثانية جانب الحق في التاريخ، ولم يكن رجحان كفة الحق من انتصار السعوديين، ووقوع نجد والحجاز في حوزتهم وقيام وحدة البلاد تحت رايتهم بقدر ما كان هذا الرجحان من الرجوع إلى حقائق الدين ونصوصه المسطورة في القرآن والسيرة والحديث، وفي هدأة للتقدير الحق والوزن السليم.
ويخطئ من يظن أن في قدرة قوة حربية إزالة شكل من التعبير الديني القوي. نعم إنها ستسكته حينا حين تنتصر، ولكنه سيظهر لا محالة عندما يحين له أن تغفل عنه تلك القوة. وقد ظهر أن الوهابية قد عادت إلى الظهور ثانية وثالثة بعد عدوان القوى الحربية عليها، وكان ظهورها الغالب عندما بدأ عبد العزيز الأخير (الملك) حركة من التوسع أضاف خلالها المجاهدون الوهابيون معظم بلاد العرب إلى موطنهم نجد، وظلوا طوال عشرين عاما يضمون البلاد جزءا جزءا حتى قامت المملكة العربية السعودية في سنة ١٩٣٢ م وأعلنت أن عقيدتها هي عقيدة السلف الصالح أهل السنة والجماعة ولا خروج عنها قيد شعرة بفضل الله.
وبقيام هذه الدولة ضرب مثل جديد لوجوب الابتعاد عن المغالاة في تقدير أثر العوامل الحربية على نتائج الصراع الديني، فليس في إمكان أي إجراء تتخذه سلطة أن يستبقي أهل العقيدة في حظيرته وحبسه، إذ العقيدة ليست سلعة تجارية تتيسر حيازتها وفقا للطلب عليها وامتلاكها، وإنما هي لو وقعت في اليد فإن بقاءها فيها حتى ينام القابض عليها أو تغفل عينه فيسترخي، وحينئذ تتفلت من يده وهي في كاملها لم تفقد من قوتها شيئا.
1 / 14
والحروب التي شنت على الوهابية بالسلاح والنار لم تكن بأقسى من التهم التي اصطلت بنارها من الألسنة والكلمات، فقد اتهمت بأنها تحط من قدر النبوة وتنَزل من أقدار الأولياء، واتهم الوهابيون -ظلمًا- بأنهم حرفوا اسم النبي بحذف ميمه الوسطى، وأشيع في بعض البلدان أنهم هدموا الكعبة بدعوى أنها حجر، كما نسبوا إليهم أنهم يحكمون بكفر كل من عداهم من المسلمين.
وكل ذلك بهتان وزور، وقد شهدت بأنه إفك -قبل كل شاهد- كتب محمد ابن عبد الوهاب ورسائله، وأهم هذه الكتب (كتاب التوحيد) الذي شرحه حفيده عبد الرحمن بن حسن ابن الإمام وسماه (فتح المجيد) ثم رسالة كشف الشبهات وثلاثة الأصول وأدلتها، وشروط الصلاة، وأربع القواعد، ورسالة المغربي. وقد طبعت هذه كلها ونشرت في القاهرة التي سخرت برغم مشيئتها في محاربة الوهابيين فكانت شهادة صدق من أهلها لدعوة التوحيد.
وتصدت الدعوة لكل المظاهر التي تسيء إلى الإسلام وجوهره النقي الطاهر، ولكل ما دخل على أفكاره من غريب دخيل.
واتهام الداعي بأنه اعتبر كل من لم يأخذ بتعاليمه كافرًا مشركًا بالله ضرب من التخليط. بل إن ابن عبد الوهاب بين طريق الشرك الأكبر وطرائق الشرك الأصغر، واستمد كل أدلته من نصوص القرآن والحديث الصحيح، وفي هذه النصوص قول الله سبحانه: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُون﴾ [يوسف من الآية١٠٦]، فلم يفصل الحق سبحانه الشرك بعد الإيمان عن الشرك الذي كان قبله إذا دخل علي التوحيد ما يجعله كدرًا مدخولًا.
بل إن من المشركين قبل الإيمان من كانوا يشركون في الرخاء ويخلصون التوحيد في الشدة ويلجؤون إلى الله وحده فيها، ويشهد القرآن لهم بذلك
1 / 15
فيقول سبحانه: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥] . أما من أشركوا بعد أن آمنوا فقد صارت دعوتهم لشركائهم في الشدة والرخاء والسراء والضراء.
وحتى لا يستطرد الكتاب فيخرج عن مدار فلكه الذي رسم له من إظهار سيرة الإمام محمد بن عبد الوهاب ومذهبه وأثره في قيام دول دينية أقواها وأبقاها السعودية الثالثة الأخيرة، فقد رأينا أن نحيد عن التوسع والإطالة في الأسماء والأمكنة ومواقع الحروب وتفاصيلها وكثير من أمور السياسة والمواثيق والمعاهدات التي تكفلت بنشرها كتب كثيرة، ورأينا أن نقصر البحث فيما نحن بسبيله على سيرة الإمام المصلح وسيرة مذهبه -قدر المستطاع- حتى لا يضل المراد في ثنايا أمور أخرى تغلبت في أحيان خيلت للمطلع أن الوهابية صارت أمرًا ثانويًا، وربما كان لها أن تتغلب حتى ولو لم تكن الوهابية قد أعانها قوم وحاربها آخرون من العرب المتخاصمين.
وقد تسنى أن يكون هذا الكتاب من ستة أبواب: الباب الأول كالمقدمة الثانية أو المدخل إلى عصر ابن عبد الوهاب. والباب الثاني في داعية الإصلاح. والثالث في بيان الدعوة. والرابع في مسيرتها. والخامس في أنظمتها. والسادس في نتائجها التي انتهت بالفوز وقيام دولة التوحيد.
وكل باب من هذه الأبواب يحوي خمسة فصول تتناسب وتتقارب فيه، وتتبين عنواناتها وما تحويه في أثناء الكتاب.
ولما كان من الحق أن ينسب الفضل إلى أهله فإن الشيخ الجليل وزير التعليم العالي بالمملكة السعودية الشيخ
1 / 16
حسن عبد الله آل الشيخ قد أبدى ملاحظات على ما جاء في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وكان مصدر ذلك الذي أبديت عليه الملاحظات من الكتب المتأخرة المؤرخة لداعية التوحيد ولا سيما كتاب لمع الشهاب الذي جهل مؤلفه، وكان من الفضل الذي يذكر أن ينبه إليه رجل من أسرة الشيخ ومن الحريصين على الحق وقول الصدق فنشكر له هذا الجميل.
والله من وراء القصد وهو الهادي إلى أقوم سبيل.
عبد العزيز سيد الأهل
بيروت في ١٣٩٨ هـ - ١٩٧٨ م
1 / 17
غاشية الليل
اضطراب الأفكار
منذ خمدت المعركة التي انتصر فيها أحمد بن حنبل وأنصار السنة على المعتزلة والجهمية وأضرابهم من الفرق المنحرفة وتباعدت بالمعركة الأيام رجعت الآراء إلى الاختلاط والامتزاج: آراء أصحاب الرأي وأقوال أهل السنة، وحين كثر أصحاب الرأي واشتطوا وقف لهم أهل السنة يردونهم بمثل أسلحتهم فنتج عن المشاحنات انسياب المياه من هاهنا ومن هاهنا إلى بحيرة واحدة ليس فيها ما يحجز تيارا عن تيار، ووجدت الأمة هذه المياه لجة صاخبة فاغترفت منها دون أن تفصل المزيج فتشرب الرنق الصافي وتلفظ الملح الأجاج.
ومع أن الخليفة المتوكل رفع المحنة وأبطل القول بخلق القرآن وناصر أهل الحديث والسنة١ فإن أثر مناصرته لم يدم طويلا، إذ ارتكب المتوكل نفسه -فيما عمل- كثيرا من الأخطاء، وابتدع أفانين الجور والانتقام من كل من ظن فيه السوء، وضد كل ما لم يرقه من الآراء، فكان أن أكسب كثيرا من القلوب حقدا وخلق فيها النية على كسر ما نصره من الأفكار٢.وبسبب غلبة الترك والفرس والمغول على الدولة وعلى الجنس العربي
_________
١ - انظر بابي: فتنة المعتزلة والطود الراسخ، في كتاب شيخ الأمة أحمد بن حنبل.
٢ - تاريخ العرب العام: ٢٢٨.
1 / 21
منذ تولي المعتصم الخلافة، وبكثرة الفتن والقلاقل والانقسامات، ودخول الأجناس المختلفة في الإسلام -طغت موجات غريبة على الفكر الإسلامي الصافي اضطرت أهل الدين الحنيف إلى الوقوف عن الاجتهاد مخافة الخطأ والذوبان.
واختلف في البلدان الإسلامية وفي أراضيها الواسعة الرحيبة تصوير الإسلام بسبب اختلاف الأجناس والأخلاق والعقول والديانات التي كان يدين بها سكان هذه الأرضين قبل أن يسلموا، فتسربت إلى تصورهم أشكال منها وألوان، ولم تستطع رؤوسهم أن تطرح عنها ما علق بها من الديانات ولا ما لزم نفوسهم من العادات، فنظرت كل أمة إلى الإسلام من خلال تاريخها ونظمها ودياناتها ومن خلال لغاتها وتقاليدها وثقافتها وتربيتها، فاختلطت من كل ذلك الأفكار الدينية وصارت إلى تداخل وتعقد كبير١.
وكان كلما استتب أمر الاختلاط والامتزاج في الأفكار وتقادم عليه الزمن انتشر مبدأ التقديس لهذه الأفكار وما يجري بإيعازها من مظاهر وطقوس، دون تمحيص أو تنقية أو نقد تمشيا مع فكرة التقديس لكل ما هو قديم وتمسكا بما جرت عليه التقاليد٢.
ومثل هذا الشعور الذي ينطلق على غير هدى محنة تعتري النفوس فتضعفها فتقبل في أثناء ضعفها التحلل وتفقد الشهوة إلى النهوض والارتقاء، ويستحيل المجتمع بهذه المحنة من رجاله ونسائه إلى عبد راضخ للواقع سليب الإحساس.
وكانت محنة المسلمين في غاشية ليلهم كذلك، أفقدتهم الشعور بأنهم
_________
١ - ضحى الإسلام ١: ٣٦٥/ ٣: ٣٥١.
٢ - تاريخ العرب المطول: ٨٧٣.
1 / 22
يسيرون في ضلالة، ونام الفكر الإسلامي الصافي نومة طويلة تحت غطاء كثيف من الظلام.
ولكن كانت تتخلله أضواء نجوم ولمعات بروق ما تلبث أن تنطفئ وتختفي بعد ومضات قصيرة، وذلك لضآلتها وصغرها بجوار عظيم المحنة، ولضعف أضوائها وسرعة خطفها في ظلمات غامرة؛ ولأن عيون الناس لا تسهر لتكشف مطالعها، وهي إذا استبانت وطلعت لا تعبأ بها لأنها واقفة لا تريد أن تتحرك وعمياء لا تود أن تسري إلى غاية من الغايات.
وكان للدين شيوخ في كل بلد ولكن لم يصر لأحد منهم من القدر والمكانة ما ينبه النقوس إليه إلا بقدر الحاجة إليه في الدروس أو الأحاديث في المدارس والندوات، وبقدر الرغبة فيه للتسلية أو الفتوى في المسائل والخلافات.
ووجدت الطوائف الباغية سبلا لأفكارها حتى تنتشر وتثبت، ومن ذلك ما وجده الخوارج والقدرية والقرامطة والراوندية وغيرهم من نفوذ بين الجماهير وأحيانا كثيرة بين ذوي العقول والمفكرين.
واصطنعت الطوائف الخارجة عقائدها كما تشاء، ولم تكن تخشى أن تصنعها مضطربة أو متضاربة ما دامت تجتاز السدود إلى مناطق الأوهام، ومن هذه الطوائف طائفة القرامطة فإنهم مع اعترافهم بالوحدانية فقد أنكروا الوحي، ومع نزولهم على كثير من أحكام القرآن فقد أذاعوا الزندقة وقوضوا جميع الحواجز التي تصد العباد عن الشر والفساد١.
نزعات التحلل:
ولقد رفض أحمد بن حنبل كل نزعة للتحلل مما جاءت به نصوص
_________
١ - تاريخ العرب العام: ٢٤١.
1 / 23
الدين، فلم يقبل من ذوي الشبه والتخييل العقلي حججهم ليخمدوا بها حجج أهل السنة، ولم يرض طريقة المتصوفة في التأمل والخلوة ولبس الخرقة وحلقات الذكر، ولم ير موجبا لأن يتعرض أئمة الدين بالرد على المبتدعة حتى لا تفشو آراؤهم فتفتن الناس ويصير الأمر -كما يسمى في عصرنا الحديث- بجريان الآراء. فسد كل الأبواب التي تخرج منها الفتن والبدع إلى مشارع النور.
وبرغم ما وقف له الإمام العظيم حياته فإن اختلاط الأمم وامتزاجها اخترق في السدود التي أقامها أهل السنة فجوات تدفقت منها آراء الجهمية ذوي التخييل العقلي، وآراء الصوفية ذوي التزيد على ما أوصى به الدين من الزهد، وآراء الفلاسفة الذين غالوا في تقدير العقل البشري وإخراجه إلى فناء لا حدود له من التخمين، وآراء علماء الكلام الذين قلبوا كل فكر ليصلوا إلى حقائق ترضاها عقولهم في خدمة الدين. وفي الليل الطويل الذي خيم على الأمة الإسلامية استقرت أفكار أولئك وغيرهم مجملة ومفصلة، وصارت عند معظم الناس هي الدين الإسلامي الذي يعرفونه ويدينون به، وصارت من المناسك القديمة المقدسة التي ولدوا أمام هياكلها وعلى أعتابها.
أما هي عند النابهين من ذوي النوايا الطيبة فإنها تحرر فكري، وعند النابهين من ذوي النوايا الخبيثة تحلل من ربقة الأخلاق وربقة الدين.
وفي تقاتل الآراء والمذاهب التي لا تعد لم يكن يقع صريعا إلا العقيدة السليمة والإسلام الصحيح.
وترابطت مهابط النّزول عند هذه الآراء الخبيثة ترابطا يدعو إلى اتهامها بالاتفاق على الخديعة، فبينما يقول محترفو الصوفية قول الغرباء بالاتحاد ووحدة الوجود١ فينْزلون بمقام الألوهية الأعظم عن مكانه العلي فإنهم
_________
١ - تاريخ العرب المطول: ٥٢١ - تاريخ العرب العام: ٢٤٥.
1 / 24
يرتفعون بمقامات الأولياء وصانعي الكرامات وخوارق العادات إلى أماكن من التقديس لا تقبل جدالا.
ووجدت فرقة الراوندية من فكرة تقديس الأولياء طريقها إلى القول بوجوب عبادة الخلفاء كما يعبد الآلهة، وأوجبوا أن يعد بلاط الخليفة كعبة جديدة.
وإذا وزعهم الخلفاء وطردوهم وجب أن يعودوا إلى الظهور والتجمع ليعبدوهم على الرغم منهم. وما هذه إلا نزعة إلى سنة العبودية التي سادت جميع الأجيال.
وقالت طائفة بالإمام أو الولي المعصوم; وجعلت النبي المرسل الذي هو أعلى وسيط بشري بين الله وعباده أدنى درجة من الإمام أو الولي، لأنهم بينما قالوا إن قدرة النبي في تلقي الوحي فحسب قالوا إن الإمام الولي يتلقى الوحي ويبرز في الحكمة النظرية.
وكان هذا هو مذهب السهروردي المقتول، فأصلاه تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية نارا محرقة أتت عليه فجعلته كالرميم١.
وخرجت بعض الطوائف إلى نوع من التأويل سموه باطنيا، فأولوا الصلوات الخمس بأسماء أشخاص إذا ذكرها المصلي أغنت عن الصلاة والطهارة، وأولوا أيام الصيام الثلاثين بأسماء عددها من الأشخاص، ثم قالوا بقدم العالم وتناسخ الأرواح ليخلصوا من ذلك إلى إنكار البعث والنشور وتكذيب الثواب والعقاب٢.
ومن هذا وما هو أكثر منه وأشنع يبدو تاريخ هؤلاء الناس وكأنهم أصبحوا بلا عقل ولا دين، وربما كان جائزا للقبائل والأمم أن تفعله في جاهليتها قبل الإسلام لأنه لم يكن لها شرع يحرمه، أما وقد حرمه
_________
١ - انظر الحوار في الإمام المعصوم بالقسطاس المستقيم - هياكل النور: المقدمة: ١٢.
٢ - كتاب السلوك الجزء الثاني، القسم الثالث: ٩٤٢.
1 / 25
الإسلام فالرجوع إليه ردة تستوجب حربا أشد من وجوبها ضد قبائل الجاهلية أو ضد مانعي الزكاة في الإسلام، إذ لا يوصف المرتد عن الزكاة بأنه مشرك من حيث يوصف المرتد إلى تقديس الأجداث بالإشراك.
وقد أثر هذا التفرق والتخليط في الآراء على وحدة الأمة الإسلامية المشدودة إلى وحدة الاتجاه إلى القبلة عند كل صلاة. ولو كانت وحدة استقبال الكعبة تعد أهم رمز عملي إسلامي لوجوب التوحد في كل شيء فإن الانقسام إلى فرق وآراء وأوطان وقبائل عاد تفريقا للوحدة وتهوينا من شأن الرمز الموجب أن يكون الاتجاه إلى ناحية واحدة مهما اختلفت البقاع وتوزعت القلوب.
وتمزق القبائل في الجزيرة العربية التي خرجت منها أول إشارة برمز التوحيد ما بين إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- كان أكبر دلالة على بلوغ التمزق غاية مداه في أرض التوحيد.
ابتداع الطقوس:
وبحسب الأفكار التي تأصلت وثبتت قامت عادات ورسخت تقاليد، فمن آثر العقل وحده كالفلاسفة جعل العبادة للعقل وحده، ومن خاف النفس البشرية كالمتصوفة أدخلها إلى حبس بالغ الضيق وأثقلها بالقيود والتكاليف، ولم يبق رحيما بالعقل والنفس إلا الشريعة التي أخرجتهما كليهما من الضيق ومن الشرود.
وكانت الشريعة الإسلامية قد محت كل الطقوس الدينية الفاسدة من الجزيرة ومن البلاد التي فتحها المسلمون وأنقذت حياة العقل المطمورة في دياجير من مشاعر الأوهام، وخلصت البشر من همجية النفسية الأولى حين ضربت بالخرافات والأساطير وشعوذة السحر عرض الحائط،
1 / 26
وأخرجت من العدم عالما مؤلفا من الحقائق المائلة لا من الأشباح الهائمة في الظلام.
ولم تكن الدولة التي تشكلت على هذه الصورة النقية كممالك الأباطرة التي سريعا ما تنحل وتزول، بل كانت طليعة مدنية جديدة تسطع منها الأنوار وتتلألأ وتبقى حية مضيئة حتى لو زال سلطانها الحربي ونفوذها السياسي، وذلك لأن العرب قهروا ممالك العالم باسم الدعوة لتوحيد الله ففتحوها فتحا روحيا استمر في التوسع والانتشار بعد توقف الانتصارات المادية في الوقائع والحروب، ووجهت القلوب والوجوه والألسنة لله وحده في النيات وأعمال الجوارح في كل عبادة ولا سيما في الصلاة والحج والدعاء من غير لجوء إلى وساطة نجوم أو كهان أو أصنام، ومن غير استعانة بأبدان أو أرواح، ومن غير مذلة بركوع أو سجود أو تقديم قرابين.
وأمكن للقبائل العربية بفضل التوحيد والوحدة أن تقيم في أقل من خمسين سنة دولة حلي جيدها بقلائد من أعجب المفاخر وآيات الإعجاز.
ولكن سرعان ما انحرف السلوك وأعوج الطريق ورجعت الجاهلية العربية والجاهلية العالمية فزحفت على اللجة الإسلامية تيارات من الجاهليتين ولم تدع قطرا من أقطار المسلمين إلا أغرقته إغراقا، ورجع إيمان القلب من حب وذل وخوف ورجاء وتعظيم وإنابة لغير الله، وصار عمل اللسان من ثناء وحمد ودعاء واستغاثة واستعاذة وحلف معقودا بغيره، واتجهت الأبدان في الصيام والصلاة وأموال الصدقات والنذور والذبائح وحبوس الأوقاف والهبات إلى غير وجهه، وأصبحت القدرة الخارقة مأمولة في التمائم والصيغ السحرية وأجواف الظلمات والكهوف وشياطين الزار١ مما أوجب هلاكا للناس أكثر مما فعلته الأوبئة وقذائف الحروب.
_________
١ - انظر شرح القصيدة النونية: ٥٠٨.
1 / 27
وصار من الكرامات ابتلاع الحجر والزجاج والأفاعي وتخريق الأجساد بالمسامير والسكاكين، وقامت من ذوي الكرامات حلقات للرقص والزمر والسماع يسمونها التغبير، يعنون به التهليل وترديد الصوت بالألحان في حلقة الذكر مع الضرب والتوقيع بالقضيب وغيره.
وقد فزع الإمام الشافعي من ذلك التغبير فقال ﵁: وخلفت في العراق شيئا يسمى التغبير وضعته الزنادقة يشغلون الناس عن القرآن.
ومع هذه الفزعة من الشافعي فإن التغبير امتد تقليده في المواضع حتى بلغ الحاج في عرفات، ولم يبطل أمره إلا في عهد صلاح الدين١.
وإثم هذا الانحراف كله عن الجادة المستقيمة واقع على اثنين: أهل الرأي الذين اغتروا بهوس العقل وتخييله فهونوا من شأن النصوص، وأضعفوا الشعور بصحة كثير من الأحاديث.
وأهل النقل الذين قصّر بعضهم في تحصيل النصوص، ولم يقصّر بعضهم ولكنهم جبنوا أن يردوا الأمة إلى حظيرة إيمانها بتكرار النصائح وتثبيت عقائد الناس السليمة باستمرار، وضرورة العناية بها في التعليم، حرصا منهم على الرزق الموصول والمنصب المرموق.
وفي غيبة العقل الراجح المستنير بأضواء الشريعة وغيبة شجاعة المستنيرين بها هامت الجماهير تتخطف من رواسب الديانات والخرافات وتقيم ما اندرس من الطقوس، وذلك إن حسنت النيات والطوايا. أو تقضي على العقائد والأخلاق والأمن والنظام إن ساءت نياتها وفسدت طواياها.
وتبدو الصلات وثيقة بين الدين والأخلاق وإن كان بعض علماء الاجتماع تصوروهما من أصلين مستقلين ولكنهما متصلان، فالديانة تؤثر في الخلق بطريق الإرشاد إلى الاعتدال والإخافة من العقاب والإطماع في الثواب،
_________
١ - تاريخ العرب المطول: ٥٢٦ - أيام صلاح الدين: ١٢٣.
1 / 28