وعندئذ اختفت تلك الأحرف النارية، وأظلم المكان ظلاما تاما نحو عشر دقائق، ظهرت بعدها فجأة صورة مجسمة لزنجي ضخم مع امرأة ذهبية الشعر شابة صغيرة الرأس من طراز «+ب»، وهما متعانقان، والصورة تبهر النظر، وهي أشد تجسيما منها لو كانت حية فعلا دما ولحما بدرجة لا تقارن، واقعية أكثر من الواقع بدرجة كبيرة.
وذعر الهمجي، وكان الإحساس على شفتيه! ورفع إحدى يديه إلى فمه، وسكتت الدغدغة حينا فأرخى يده على العقدة المعدنية، فبدأت من جديد، وأرغن العطور في تلك الأثناء يتنفس عن المسك النقي، وفي النهاية ترنمت حمامة من صندوق صوتي مرددة هذا الصوت «أوه، أوه.» وجاوبتها نغمة محزنة أعمق من النغمة الإفريقية تتذبذب اثنتين وثلاثين مرة في الثانية فقط مرددة هذا الصوت: «آه، آه». وعادت الشفاه المجسمة تردد الصوت الأول، ورددت مرة أخرى المناطق الحسية في وجوه ستة آلاف متفرج في الهمبرا سرورا كهربيا لا يحتمل ، عندما سمعوا هذا الصوت: «أوه ...»
وكان موضوع القصة المصورة غاية في البساطة، فقد حدثت للزنجي حادثة في إحدى الطائرات وسقط على رأسه، وأحست الجباه بوقع الصدمة، وعلت أصوات المتفرجين مرددين هذه الأصوات: «أوه، آه» - وذلك كله بعد بضع دقائق من «الأوهات والآهات» الأولى. (وبعدما تغنت فرقتان معا بنشيد من الأناشيد، وبعدما تمثل دور قصير من أدوار الحب فوق جلد الدب المشهور، وكل شعرة فيه تحس وحدها واضحة - ولقد أصاب مساعد مدير المصائر كل الإصابة).
وحورت الصدمة تكييف الزنجي كل التحوير، فاشتد ميله إلى الفتاة الشقراء من طراز «ب» وجن بها، واحتجت، وأصر على ميله، وظهر له منافس، تشاجر معه وطارده وتهجم عليه، وأخيرا اختطفت الفتاة الشقراء وأثارت بذلك هزة كبرى، واغتصبت الشقراء «ب»، وطارت نحو السماء وبقيت هناك محلقة، ولبثت ثلاثة أسابيع في جدل وحشي غير اجتماعي مع الرجل الأسود المجنون، وأخيرا بعد سلسلة كاملة من المغامرات وألعاب بهلوانية كثيرة، نجح ثلاثة شبان من طراز «أ» في إنقاذها، ونقل الزنجي سريعا إلى مركز لإعادة تكييف البالغين، وانتهت القصة المصورة انتهاء سعيدا لائقا، بعدما أصبحت الشقراء «ب» سيدة على منقذيها الثلاثة، وقد قاطعوا أنفسهم لحظة كي ينشدوا رباعية مركبة مصحوبة بأركسترا رفيعة كاملة ورائحة الجاردينا على أرغن العطور، ثم ظهر جلد الدب للمرة الأخيرة، ووسط دوي السكسوفونات تلاشت في الظلام آخر قبلة مجسمة، وبادت الدغدغة الكهربية الأخيرة على الشفاه، كما تبيد السوسة وهي ترتجف، وأخذت تضعف وتفتر حتى سكنت في النهاية سكونا تاما.
ولكن هذا الإحساس لم يفن عند ليننا كل الفناء؛ فإن أثره ما برح يهتز على شفتيها، وما فتئ يسري في جلدها محدثا رعدة لطيفة من الشوق والسرور، حتى بعد أن أشعلت الأضواء، وهم يخطرون مبطئين مع الجمهور صوب المصاعد، واحمرت وجنتاها، ولمعت عيناها كقطرات الندى، وتنفست الصعداء، ثم أمسكت بذراع الهمجي وضمتها - وهي مرتخية - إلى جنبها، وأطل عليها لحظة، وهو شاحب اللون، متألم، متشوق، وخجل من تشوقه، إنه ليس جديرا ... والتقت عيونهما برهة من الزمن، ورأى في عينيها كنوزا موعودة؛ أنهما ينمان عن مزاج يصح أن تفدى به الملكات، وأشاح ببصره مسرعا، وأطلق ذراعه الحبيسة، وانتابه خوف غامض؛ خشية أن تكف عن ظهورها بمظهر يشعره بأنه غير جدير بها.
قال: «ولست أظن أنه ينبغي لك أن تنظري إلى الأشياء بهذه العين».
وقد حاول في الحال أن ينسب القصور عن الكمال في الماضي، أو احتمال ذلك في المستقبل إلى الظروف المحيطة دون ليننا نفسها. - «أي أشياء؟» - «أمثال هذه القصة المصورة المريعة.»
ودهشت ليننا حقا وقالت: «مريعة؟ إني كنت أحسبها جميلة؟»
فقال محنقا: «لقد كانت وضيعة غير شريفة.»
وهزت رأسها وقالت: «لست أعرف ما تعني.» وتعجبت من شدة غرابته، وتساءلت لماذا يشذ ويفسد الأشياء.
Unknown page