Calam Sudud Wa Quyud
عالم السدود والقيود
Genres
فإذا اتخذنا الفكاهة والغناء مقياسا للخير والمحبة الإنسانية في نفوس السجناء فأهل الخير فيهم قليل، وهذا القليل الموجود يشف - في أغلبه وأعمه - عن معدن وضيع أو معدن مشوب، وإن لم يجز لنا أن نقول: إن الخير فيهم معدوم وإن صلاحهم ميئوس منه، ولا سيما حين يعالجون بما يناسبهم وحين يقترن حسن النية في علاجهم بالفكرة الرشيدة والعزم الصبور.
ويخطئ من يظن أن السجناء لا يغنون كما يغني الطلقاء والأبرياء كلما وجدوا فرصة للغناء، فإنهم ليهتفون ولا يقصرون في الهتاف ملء صدورهم كلما خلا لهم الجو تحت ستر من الليل، وربما كانوا أشد كلفا بالشدو والهتاف من الطليق المرسل على أرسانه؛ لأن رفع الصوت وسيلة من وسائل الشعور عندهم بالحرية وإرسال النفس على السجية، فهو مطلوب لهذا الغرض ولو لم يكن فيه طرب أو سلوى، ولا حاجة بالإنسان إلى دخول السجن لعرفان هذه الحقيقة بل لاستماع هذه الحقيقة الصارخة من مسافة بعيدة! فإن العبور على مقربة من السجن بين العشاء والساعة التاسعة كاف لاستماع ما يسمعه السجناء في الداخل من الغناء والهتاف، وقلما تمر ليلة واحدة دون أن يدوي السجن بأناشيد أهل الصعيد ومواويل أبناء البلد على اختلاط لا تمييز فيه بين السامع والمسموع، ولكن أهل الصعيد وأبناء البلد كما يعلم القراء يغنون كأنهم يتكلمون، أو هم يغنون ويصيحون حين يعوزهم السمر والكلام وتكل ألسنتهم من السكوت، وليس هذا الذي نعنيه بالغناء المبين عن الطبائع والأخلاق، وإنما نعني به الأوزان الفنية التي تتجلى فيها الأذواق وخلجات العواطف وألوان الإحساس، وهذا الذي نقول: إنه قليل نادر بين المجرمين. •••
وربما كان الأولى بي أن أتخذ مقياسا آخر للخير في طبائع زملائنا السابقين يعنيني أكثر مما تعنيني هذه المقاييس التي تعم جميع الباحثين في هذه المشاهدات؛ لأنني اختبرت من معاملة زملائنا صنوفا من البر والطيبة مختلفة المصادر والأسباب، فكنت أنا نفسي مقياسا محسوسا يقاس به ويقيس!
فمنهم - وهم القليل - من كان ينطوي على كرم مأثور، ويلوح لنا من بعض بوادره وتصرفاته أنه يقبل على نفسه حالة السجن ومضانكه وآلامه، ولا يقبل أن يعانيها رجل من ذوي الصناعة الفكرية، كأنه يحس في قرارة ضميره بفارق بين عمله وعملنا وسائقه إلى السجن وسائقنا، ولا يأنف أن يعترف بهذا الفارق ثم يرجح كفتنا على كفته عند الموازنة.
ومن هؤلاء من كان أساه لنا واهتمامه براحتنا والتسرية عنا يكلفانه المجازفة الجريئة والإقدام على العقوبة وتضييع حقه في الإعفاء من ربع المدة، وهو الحق الذي يناله كل من قضى مدة السجن بغير إخلال بقواعد النظام، ويزيد في فضلهم أنهم كانوا لا يطمعون منا في جزاء عاجل، ولا ينتظرون الجزاء بعد الإفراج عنهم وعنا، إذ كان موعدهم بمفارقة السجن بعد موعدنا بسنوات أو شهور طوال.
وقد كان بين هذا الفريق فتى يجيد الغناء بعض الإجادة، ويبث فيه شيئا من الحنين السائغ والبواعث الشجية، وكان يخشى الحراس إذا غنى مساء؛ لأنه معروف الصوت في السجن كله لا يختلط حيث كان بأحد غيره، فكنت أسمع بعض زملائه الذين يحضونه على الغناء يقولون له: إن «الأستاذ» - ويقصدونني أنا - هو الذي أوعز إلينا أن نقترح عليك كيت وكيت من الأدوار، فلا يتردد في الإجابة دون أن يعرفني أو أعرفه ودون أن يلقاني أو ألقاه.
ومنهم من لا يبلغ مبلغ هؤلاء في كرم الخليقة ولكنه يخدمنا ويبذل المعونة لنا عن غبطة منه بإنشاء العلاقة بينه وبين أناس يراهم أرجح منه منزلة وأكبر ممن تجمعه بهم علاقة الزمالة، ويرضيه أن يستحق من هؤلاء الناس كلمة الثناء وعرفان الجميل والشعور بفائدته لهم في حالة من الحالات، وتلك ولا ريب نية خير لا غبار عليها؛ لأنها دليل على طبيعة لم تتجرد من التطلع إلى حسن الظن وطيب الأحدوثة .
ومنهم من كان باعثه للخدمة والمعونة إعجابه بالجرأة كما يفهمها، ونظره إلينا كما ينظر إلى أنداده الجسورين في معارك الفتوة ومقاحم الضرب والمصارعة، وهو باعث لم نكن نغتبط به وإن كنا لا ننسى حسن النية فيه!
وكلهم كانوا يضمرون لنا شعور المودة ويخلصون الرغبة في بذل المعونة الميسرة لهم كلما أتيحت لهم وسيلة من وسائلها. •••
على أننا لم نخطئ في معظم السجناء عاطفة مصرية صميمة لاحظناها في جميع المصريين على تباعد الطبقات والأقاليم، ونعني بها «عاطفة العائلة» وما يتفرع عليها من رعاية الأرحام والأسنان.
Unknown page