ينسب ماركوس جونيانيوس جوستينوس - أو جوستين - على وجوه مختلفة إلى القرن الثاني أو الثالث أو الرابع الميلادي، وجاءت مساهمته في دراسة الإسكندر على هيئة ملخص للدراسة الطويلة التي وضعها مؤلف سبقه، وهو بومبيوس تروجوس، بعنوان «التواريخ الفيليبية» في 44 كتابا. وعن هذا العمل قال تارن: «لكن الإسكندر كما يصوره تروجوس - أو لعل الأحرى أن نقول: كما يصوره جوستين - شديد السوء، عدا في نقطة واحدة، لدرجة أن الأمر لا يكاد يستحق استقصاء المصادر بالكلية» (1948: 122).
على النقيض من ذلك، فإن الدراسة التي وضعها آريانوس - أو لوكيوس فلافيوس آريانوس - في القرن الثاني كتب لها البقاء كاملة أو تكاد، وتعتبر بوجه عام التأريخ الأكثر موثوقية من بين ما وصل إلى أيدينا من تأريخات. وتعزى هذه الموثوقية إلى اثنين من مصادر آريانوس؛ إذ اعتمد آريانوس أولا على السجل الذي أعده أرسطوبولوس، الذي صاحب الإسكندر في حملته كخبير فني؛ ومن ثم نجد تفاصيل كثيرة تعكس اهتماماته غير العسكرية كبناء السفن والجسور. وأما المصدر الثاني فهو الذي وضعه صديق الإسكندر وخليفته بطليموس، الذي شارك أيضا في تلك الحملة. من المعقول أن نعتقد أن بطليموس وضع مؤلفه في أواخر حياته (مات سنة 283 قبل الميلاد) بعد تعزيز سيطرته على مملكته المصرية. ما يتساوى في أهميته في الحكم على جدارة «أنباسة الإسكندر» لآريانوس كشفه عن نيته السير في كتابته التاريخية على خطى ثلاثي المؤرخين الإغريق الكلاسيكيين: هيرودوت وثوكيديدس وزينوفون.
وصلت إلى أيدينا بقايا مصادر كثيرة وجدت ذات يوم وتناولت الإسكندر؛ فكانت الحملة تضم مؤرخا رسميا هو كاليسثينيس، تلميذ أرسطو وأحد أقربائه؛ وعندما فقد كاليسثينيس حظوته لدى الإسكندر، انتهى أيضا دوره كمؤرخ. معروف أن حاجب الإسكندر كاريس الميتيليني كتب «قصصا» عن الإسكندر في 10 كتب، كما فعل آخرون من ضمنهم أونيسيكريتوس، الفيلسوف الذي شارك في الرحلة البحرية مع نيارخوس. استحوذ فيليب والإسكندر على اهتمام كبير. وينسب إلى مؤرخ مقدوني يسمى مارسيا البيلي كتابة تاريخ لمقدونيا في 10 كتب، بالإضافة إلى رسالة بعنوان «عن تعليم الإسكندر». ويستمر النقاش حول وجود عدد من التأريخات الأخرى، التي تتراوح بين وصف للمرتزقة الإغريق الذين يخدمون مع ملك الفرس، و«وصية» تخص الإسكندر، وشذرات من «يوميات» (روزنامة) للحملة ذاتها. ما يفاقم هذه المشكلة وجود حوالي 80 نسخة مختلفة من «رومانسية الإسكندر» بأربع وعشرين لغة، وهي عبارة عن مجموعة أساطير تقدم الإسكندر باعتباره الجد الأعلى الذي تحدرت منه العائلة المالكة الملايوية، وكقاتل تنانين، وكرجل يكلم الأشجار، وكمؤمن برب اليهود والنصارى، وفي هيئات أخرى كثيرة. الحقيقة أنه يوجد أكثر من إسكندر واحد. ويقدم ريتشارد ستونمان عددا من هذه الأساطير، وجمع الباحث الألماني فيليكس ياكوبي شذرات الأعمال الضائعة. ويتمخض التوفيق بين هذه الشواهد المتباينة عن السرد التقريبي التالي.
ولد الإسكندر في صيف عام 356ق.م لفيليب الثاني، ملك المقدونيين آنذاك ، وأوليمبياس، التي تزوجها فيليب قبل ذلك بسنة على الأرجح. كان محل ميلاده مدينة بيلا، التي صارت المركز الرئيس في مقدونيا في أوائل القرن الرابع وباتت آنذاك بمنزلة القلب السياسي للمملكة. قام على تعليم الإسكندر العديد من المعلمين؛ إذ كان ليونيداس - أحد أقرباء أوليمبياس - وإغريقي يسمى ليسيماخوس قوتين مهمتين في سنواته الأولى، وعندما استهل الإسكندر العقد الثاني من عمره، استعين بالفيلسوف الإغريقي أرسطو لتعزيز نضجه الفكري ومعه العديد من رفاقه وأصدقائه. عاش التلاميذ ومعلمهم منفصلين عن بيلا في موضع يعرف باسم نمفايون، أو مكان حوريات الماء. وتوجد خيوط تلقي بعض الضوء على الموضوعات التعليمية التي تناولها أرسطو، وسنتناول ما نرجحه منها في الفصل الرابع. جاءت المعرفة الضرورية الأخرى، بطريق مباشر أو غير مباشر، من أبوي الإسكندر، وهذا موضوع الفصل الثالث. يتجلى لنا أن التدريب البدني كان يشكل جزءا كبيرا من تلك المعرفة من واقع قدرة الإسكندر على ترويض جواد بري لم يقدر حتى الرجال المتمرسون الأسن منه على امتطاء صهوته. صار هذا الجواد، المسمى بوسيفالوس، جواد مروضه الأثير، فسافر معه إلى نهر السند ومات هناك. وتضمنت صور التدريب الأخرى جميع المهارات التي كان يحتاج إليها ابن الملك فيليب وخليفته المحتمل. وتتضح الشواهد الدالة على نجابته كتلميذ في حكم الأب فيليب على الإسكندر، وهو في السنة السادسة عشرة من عمره، بأنه كفء لحكم مقدون في غيابه (340)، وبعد ذلك بعامين بأنه مؤهل لقيادة ميسرة الجيش المقدوني في خيرونية، التي ألحق فيها الجيش المقدوني، بقيادة فيليب والإسكندر المشتركة، هزيمة بالإغريق (338). شاب السنة التالية خلاف خطير بين الأب وابنه بسبب زواج فيليب من زوجته السابعة كليوباترا، وكان من خطورة هذا الخلاف أن رحل الإسكندر وأمه عن بيلا قاصدين مملكتها الأصلية إبيروس؛ ثم عقدت مصالحة سنة 336 عادا على إثرها إلى مقدونيا، وفي تلك السنة اغتيل فيليب الثاني.
وهكذا كانت سنة 336 مستهل حكم الإسكندر. طالب خلفاء محتملون آخرون من أبناء الأسرة الأرغية أيضا بأحقيتهم في الحكم، ومنهم ابن آخر لفيليب الثاني، وابن شقيق فيليب، الذي لم يكن يقدر - بينما كان طفلا سنة 359 - على مواجهة الاضطراب الذي تمخض عنه موت أبيه. على النقيض من ذلك، ففي سنة 336 كان الإسكندر قد برهن بالفعل على قدرته برهانا كافيا لكي تنادي به جمعية الجيش ملكا، ولكي يضمن دعم ضباط والده وأصدقائه، وكلاهما حيوي للوصول إلى الملك. استهلت فترة حكمه التي دامت 13 سنة بانتفاضات في شمال مقدونيا وفي اليونان، حيث حنت كلتا المنطقتين إلى استقلالها السابق. وفي سنة 335 كان الجيش يشن حملة بقيادة الإسكندر فيما يعرف اليوم باسم ألبانيا، عندما استدعي للتعامل مع ثورة قامت في وسط اليونان، وتحديدا في طيبة. وعندما تم الاستيلاء على طيبة ونهبها، خضعت بقية اليونان مجددا للهيمنة المقدونية التي سبق أن بسطها فيليب. تحقق آنذاك الهدف من وراء «الحلف الكورنثي» الذي أقامه فيليب بعد انتصاره في خيرونية؛ إذ كان أعضاء الحلف قد وافقوا على تحالف هجومي ودفاعي بقيادة الملك المقدوني بهدف محدد، هو شن حملة ضد بلاد فارس. والحقيقة أن فيليب أرسل قبل موته قوة متقدمة إلى آسيا الصغرى، وبعد أن استتبت الأوضاع للإسكندر في اليونان وعلى حدوده الشمالية، صار بإمكانه الالتفات إلى الحملة الكبرى التي أشعل فتيلها أبوه، ونعني العملية ضد الفرس.
شكل 1-1: رأس عاجي من زينة حامل التابوت المطعم بالذهب والعاج في الغرفة الرئيسة بالمدفن الملكي الثاني في فيرجينا، ويعتقد أنه رأس الإسكندر الثالث. بإذن من السيدة أوليمبيا أندرونيكو-كاكوليدو.
كانت معظم التحضيرات الأساسية للحملة جاهزة؛ وهكذا، بعد أن عين الإسكندر أنتيباتروس، أحد كبار ضباط والده، وصيا على العرش، قاد جيشه المؤلف من نحو 30 ألفا من المشاة و5 آلاف من الخيالة عبر الدردنيل في ربيع سنة 334. لم تكن وجهته الأولى ساحة قتال لتحدي السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى، بل ساحة القتال الأسطورية طروادة. وعلى الرغم من أن هذا الاختيار مدهش في أعين دارسي الإسكندر في العصر الحديث، فإنه كان قرارا طبيعيا من رجل من نسل آخيل مقدم على الانتقام من محاولة الفرس السيطرة على مقدونيا واليونان. غير أن المقدونيين تحدوا في الخطوة التالية السيطرة الفارسية على آسيا الصغرى في معركة دارت عند نهر جرانيكوس، ولم يكن الجيش الفارسي بقيادة ملك فارس بل بقيادة مرازبة الأناضول. وما من شك بخصوص المحصلة، التي كانت انتصارا مقدونيا كبيرا فتح الباب إلى الأناضول؛ فاستسلمت سارديس، أقصى عاصمة فارسية في الغرب، وعمل الإسكندر على إحلال السلام في المنطقة طوال ما تبقى من تلك السنة وغالبية السنة التالية. وفي خريف سنة 333 مضى قدما تاركا ضابطا آخر من كبار ضباط فيليب، وهو أنتيغونوس، ليقود العملية الجارية لتعزيز السيطرة المقدونية على الأناضول.
التقى الجيشان من جديد في موقعة إيسوس في شمال سوريا، وكان الجيش الفارسي - الذي يقدر قوامه بستمائة ألف رجل - في هذه المواجهة بقيادة ملكهم داريوس الثالث؛ ومع أن هذا القوام مشكوك فيه بشدة، فإن الفرس كانوا يفوقون المقدونيين عددا، لكن تبين أن كثرة عدد الفرس «عديمة الفائدة لضيق المكان» (آريانوس، الكتاب الثاني، 8، 11). بعد الانتصار المقدوني في الميدان، تمكن داريوس من الفرار، لكن من اصطحبهم معه من أفراد أسرته وقعوا في الأسر، ولتأمين إطلاق سراحهم عرض التنازل عن الأراضي الفارسية الواقعة غرب نهر الفرات، فرد الإسكندر على ذلك بطريقتين؛ إذ رفض العرض، وراح يفتح منطقة سوريا وفلسطين. استسلمت مدن كثيرة للمقدونيين، وبعضها تم الاستيلاء عليه دون صعوبة كبيرة، لكنهم اضطروا إلى ضرب حصار دام سبعة أشهر للاستيلاء على مدينة صور الحصينة، التي كانت موقعا حيويا للسيطرة على القوة البحرية. وبعد أن تمكن الإسكندر وجيشه من فتح صور في النهاية، واصلوا مسيرتهم جنوبا إلى غزة، آخر مدن جنوب فينيقيا، وكانت محاطة بأسوار حصينة شأنها شأن صور، ويتطلب الاستيلاء عليها إقامة استحكام مضاد بارتفاع 250 قدما (75 مترا) وآلات حصار وحفر أنفاق تحت سورها.
في أعقاب الاستيلاء على المدينة وقتل سكانها أو استرقاقهم، واصل المقدونيون مسيرتهم نحو أقصى أقاليم الإمبراطورية الفارسية غربا وهو مصر، فوصلوها في أواخر خريف سنة 332. لم يتطلب تغيير تبعية مصر أي قتال. ظل الإسكندر على مدى أشهر مشغولا بالمسائل الإدارية، فوضع الخطط لإقامة عاصمة جديدة هي الإسكندرية، وفي جولة أخرى مفاجئة، سار نحو 370 ميلا (600 كيلومتر) عبر الصحراء الغربية لاستشارة عرافة آمون الشهيرة. على خلاف محصلة المعارك، يتركز قدر كبير من النقاش على سبب هذه الرحلة الطويلة الشاقة، وكذلك على السؤال الذي يطرحه الإسكندر والإجابة التي تقدمها العرافة؛ فهل علم فعلا أن أباه الحقيقي ليس فيليب بل آمون-زيوس؟ وسنعود إلى هذه المسألة وأفعال أخرى مماثلة في الفصل الختامي.
شهد ربيع سنة 331 عودة الإسكندر إلى سوريا مستأنفا التعامل مع مسائل إدارة مملكته المتسعة، قبل مواصلته طريقه نحو بلاد ما بين النهرين، وبعد عبوره نهري دجلة والفرات دون مقاومة، أراح جنوده استعدادا للمعركة المقبلة التي كان الفرس يتأهبون لها. كانت تلك المعركة، التي دارت رحاها خريفا عند جاوجاميلا في شمال بلاد ما بين النهرين، مجهودا هائلا من جانب الفرس؛ إذ ربما كانوا يفوقون المقدونيين عددا بما يصل إلى ستة أمثالهم، لكن لم تستطع الأعداد ولا العجلات الحربية ذات المناجل، التي نشرت لبث الفوضى بين الجنود المقدونيين، تحقيق النصر في المعركة. وعلى الرغم من فرار الملك داريوس من جديد، ضمن النصر المقدوني الكنوز الفارسية الموجودة في المدينة القريبة من ساحة المعركة، وفتح طريقا عبر بلاد ما بين النهرين، ثم آخر إلى العاصمتين الفارسيتين شرق دجلة. استسلمت بابل وحذت شوشان حذوها. وبعد إجراء تعيينات رسمية وإحداث بعض من إعادة التنظيم في صفوف الجيش، سار الإسكندر صوب الجنوب الشرقي نحو العاصمتين الفارسيتين تخت جمشيد وباسارجاد. كان يقوم على حماية الأولى مرزبان وتحت يده قوة قوامها 40 ألفا من المشاة (آريانوس، الكتاب الثالث، 18، 2)، متخذين مواقع استراتيجية لوقف الزحف المقدوني، وتطلب الاستيلاء عليها الالتفاف حول مواقع العدو بالسير عبر تضاريس وعرة. أما باسارجاد فلم تتطلب مجهودا مماثلا. تمخض الاستيلاء على المدينتين عن ثروة طائلة على هيئة كنوز، لكنه تمخض أيضا عن الوصول إلى مركز السلطة الفارسية، فصار بإمكان الإسكندر إعلان انتزاعه عرش الأسرة المالكة الأخمينية. وفي تخت جمشيد، أعفى الفرقة الإغريقية من المزيد من المشاركة في مهمة الحلف الكورنثي، ثم أحرق المدينة؛ وهذا فعل آخر يتطلب دراية بعقل الإسكندر وعواطفه، وبما أننا لا نعرف كينونته الداخلية، يظل سبب تدمير المدينة محل جدل شديد.
Unknown page