لدى موت الإسكندر الأول، تنازع على خلافته أبناؤه الكثيرون، وهذه واقعة متكررة في مقدون في القرنين الخامس والرابع، بل أثناء الفترة الهلنستية أيضا بعد موت الإسكندر الأكبر. نجح بيرديكاس الثاني في وراثة العرش، لكن هذا لم يحدث إلا بعد القضاء على اثنين من إخوته، وربما أبناء أحدهما، وامتد حكمه إلى 414 / 413، وتجسدت أثناء هذا الحكم كل التهديدات المحتملة السالفة الذكر. والحقيقة أن بيرديكاس عانى من أطماع أكبر حتى مما عرفها أبوه من جانب الجهات الخارجية في الإقليم المقدوني والموارد المقدونية، وهو ما يعزى إلى حد كبير إلى الوضع في اليونان؛ حيث تصادفت بداية حكمه مع تحويل التحالف الطوعي بين الدول الإغريقية بزعامة أثينا إلى حلف إجباري. أسفر هذا التحويل بدوره عن انقسام متزايد بين الدول الإغريقية، أدى إلى 27 سنة من الحرب الأهلية (431-404) بين أثينا وحلفائها/رعاياها من ناحية، وإسبرطة كزعيم للحلف البيلوبونيزي من ناحية أخرى.
كان موقع مقدونيا الاستراتيجي ومواردها من الخشب اللازم لبناء السفن والأسلحة حيويين لكلا طرفي الصراع الإغريقي. أسس الأثينيون حضورا دائما في أمفيبوليس على أسافل نهر سترايمون سنة 437. واستجاب الإسبرطيون لطلبات المساعدة من بيرديكاس الثاني في نضاله ضد الغزوات التراقية في إقليم أكسيوس. وانتهزت مملكة لنكستيس الكونفيدرالية الفرصة لكي تنفصل عن الائتلاف المقدوني الهش وتصبح أقوى دولة قبلية في المنطقة أثناء النصف الثاني من القرن الخامس. وأثبت اللنكستيون، في عهد ملكهم أرهابايوس، أنهم جيش قوي في مواجهة جيش موحد يتألف من المقدونيين بزعامة بيرديكاس والقائد الإسبرطي براسيداس على رأس قوة قوامها 3 آلاف من المشاة الثقيلة وألف من الفرسان، بالإضافة إلى قوة من الجنود الخالكيذيكيين. وعلى الرغم من هذه المشكلات العويصة، ظل قلب المملكة المقدونية دون مساس.
استفاد ابن بيرديكاس وخليفته أرخيلاوس (414-400 / 399) من التطورات الحادثة في اليونان، التي حولت اهتمام الدول المنافسة إلى أجزاء أخرى من المنطقتين المتوسطية والإيجية، وينسب إليه الفضل في تقوية قلب المملكة بإنشاء حصون حدودية لحماية سلامة أراضيها، وطرق تربط أجزاءها بعضها ببعض. ربما كان أرخيلاوس أيضا مسئولا عن إنشاء مدينة على أبواب نهر أكسيوس، وعن إنشاء برج مراقبة داخل سور دائري ضخم فوق تل شديد الانحدار على الضفة المقابلة. كما أن له مساهمة أخرى كبيرة هي نشر الثقافة الهيلينية في العاصمة المقدونية؛ فمثلما كان الإسكندر الأول يستضيف الشاعرين الغنائيين الإغريقيين بندار وباكيليديس، وكان بيرديكاس الثاني يتلقى زيارات من أبقراط والشاعر ميلانيبيديس، كان أيضا من بين مشاهير الزوار في زمن أرخيلاوس الشاعران الأثينيان يوربيديس وأجاثون، والرسام زيوكس، والموسيقار والشاعر الغنائي تيموثيوس، ودعي سقراط إلى زيارة بيلا لكنه رفض على أساس أنه لا يستطيع رد واجب الضيافة. كان هذا الحاكم الأرغي أول مقدوني يفوز بإكليل في سباقات الكدريجة (عربة تجرها أربعة خيول) في أوليمبيا سنة 408 قبل الميلاد. وسع أرخيلاوس أيضا المستوطنة الموجودة في بيلا، التي صارت العاصمة أثناء حكم فيليب الثاني إن لم يكن قبل ذلك. جاءت نهاية أرخيلاوس ومساعيه على يد نبيل مقدوني حانق قتله، تاركا وريثا طفلا. وفي العقود الأربعة التي تلت ذلك، تمكنت المملكة بمشقة من النجاة من التحديات الداخلية والخارجية التي واجهت حكامها السبعة أو الثمانية خلال تلك الفترة.
في أقل من عقد من الزمن، تنقل العرش بين أبناء ثلاثة أفرع من السلالة الأرغية؛ ففي البداية، اعترف بابن أرخيلاوس الصغير أوريستيس ملكا على البلاد، مع تولي أيروبوس - ربما كان عمه - منصب الوصي على العرش؛ ثم صار أيروبوس نفسه ملكا لمدة أربع سنوات بعد أن تخلص من ابن أخيه. وبموته، حكم البلاد أمينتاس الثاني الذي ينتمي إلى فرع الإسكندر الأول لفترة وجيزة إلى أن قتل على يد درداس الإيليمي في مقدونيا العليا، فخلفه على العرش بوسانياس، أحد أبناء أيروبوس، لبضعة أشهر إلى أن أزيح بتهمة الخيانة. لا تهم الأسماء بقدر ما يهم التعاقب على الحكم وما صاحبه من تآمر وقتل؛ فكون الشخص أكبر أبناء الملك الأرغي الحاكم لم يكن ضمانة لوراثته أباه وراثة سلمية، وإن نجح الشخص في اعتلاء العرش والمناداة به ملكا، فليس في هذا ضمانة لبقائه على العرش طويلا أو بلا منازع.
كان أحد أبناء فرع أمينتاس - يمتد نسبه إلى الإسكندر الأول - قد تمكن من النجاة من الصراع على السلطة، وصار ملكا للبلاد متخذا لقب أمينتاس الثالث سنة 393. وعلى الرغم من استمرار عهده حتى 370 / 369، شابته القلاقل الداخلية والخارجية. دفع اجتياح إليري لمقدون سنة 388 / 387 أمينتاس إلى التخلي عن العرش، فتولى الحكم في هذه الأثناء ولفترة وجيزة شخص يسمى أرغايوس، وربما كان أحد أبناء الملك أرخيلاوس. وبمساعدة الإغريق التيساليين في حملة دامت ثلاثة أشهر، استعاد أمينتاس الملك في 387 / 386. وبالإضافة إلى الغزاة الإليريين، واجه اجتياحا على أيدي الإغريق من مدينة أولينثوس في شبه جزيرة خالكيذيكي في 383 / 382، وهي الحملة التي أسفرت عن الاستيلاء على بيلا؛ فاتجه أمينتاس إلى إسبرطة لإقامة تحالف وطلبا للعون في الصراع بين مقدون وأولينثوس، الذي لم يحل حتى حكم فيليب الثاني.
ينسب الفضل إلى أمينتاس مرتين: أولاهما لقدرته على البقاء في السلطة في مثل هذه الظروف، والأخرى لذريته؛ إذ أنجب الإسكندر الثاني الذي خلفه لمدة سنتين (369-368)، وبيرديكاس الثالث الذي صمد لنحو سبع سنوات (368-359)، وفيليب الثاني الذي أسس مملكة مقدونيا الضخمة خلال حكمه الذي دام 23 سنة (359-336). واجه الإسكندر الثاني حربا أهلية في الديار، وجر إلى الأحداث الإغريقية المستمرة في تيساليا المجاورة، ومات قتيلا، فخلفه أخوه الذي يصغره بيرديكاس الثالث، مع وجود وصي على العرش مارس السلطة لعدة سنوات. بالإضافة إلى التهديدات الداخلية لسلطة بيرديكاس، كانت أهم التهديدات الخارجية التي تطلبت قيادته الأنشطة الأثينية في شمال منطقة بحر إيجة، وغزوات الإليريين الذين كانوا يزحفون بنجاح من منطقة البحر الأدرياتي. ثم هلك ومعه نحو 4 آلاف مقدوني في ميدان المعركة في 360 / 359 في إطار تصديه لتهديد الإليريين.
نظرا للتاريخ الحافل بالمنافسة على السلطة السالف الذكر، ربما كانت هوية الشخص الذي سيختار خليفة غير يقينية. كان لبيرديكاس ابن صغير ربما أعلن ملكا، وكان له أيضا أخ وهو فيليب الثاني، وكان من بين المنافسين الآخرين بوسانياس وأرغايوس من فروع أرغية أخرى، وكلاهما سبق أن ولي الملك فترة وجيزة في تسعينيات ذلك القرن وأوائل ثمانينياته على الترتيب. بعد التعامل مع بوسانياس وأرغايوس، ربما وقع الاختيار على فيليب كوصي على عرش ابن أخيه القاصر، أو ربما أعلن ملكا في حد ذاته. ثمة نقاش حافل يحيط بهذه المسألة، لكن ما يهمنا هو المحصلة؛ حيث صار فيليب الثاني الزعيم التالي للدولة المقدونية الهشة. وإليكم الكلمات القوية التي كتبها تشارلز إدسون:
كانت لحظة الكارثة واليأس تلك هي التي شكلت من الشعب المقدوني أمة. صار بمقدور جميع عناصر المجتمع آنذاك أن تدرك أن مجرد البقاء يتوقف على الطاعة الإرادية للسلطة الملكية ... يظل صعود مقدونيا الفائق السرعة إلى مرتبة قوة عظيمة في ظل سماحة حكم أخي بيرديكاس الأصغر، فيليب الثاني الشهير؛ مثالا حيا على الاستجابة الشجاعة والناجحة للضغوط الخارجية التي يبدو أنها لا تقهر. (1970: 43)
لم يستطع فيليب أن يظل سمحا باستمرار في محاولة استعادة سلامة أراضي المنطقة الشاسعة، التي كتب عنها ثوكيديدس يقول: «الكل بأكمله يسمى مقدونيا» (الكتاب الثاني: 99، 6). كان جزء كبير من ذلك الكل في مقدونيا العليا قد انفصل عن التحالف الذي أقامه الإسكندر الأول أو الذي طالب آخرون، كالإليريين والتراقيين والإغريق، بأحقيتهم فيه. واجه فيليب أيضا منافسة على السلطة من خمسة مطالبين بها، وكانت مهمته الأولى لكي يقود جيشا هي اكتساب الشرعية، ومعنى هذا باختصار التعامل مع المنافسين وترسيخ حقه في القيادة؛ فأبرم في تلك الأثناء معاهدات بدلا من خوض حروب مع الملك الإليري والشعب الأثيني، وبحلول عام 358، كان فيليب قد استبدل بالعمل العسكري الدبلوماسية في تعاملاته مع القوى الخارجية؛ إذ أدت حملة ناجحة في إليريا، أعقبها زواج بابنة الملك الإليري المهزوم، إلى تخفيف وطأة ذلك التهديد، على الأقل مؤقتا، واستهل اجتياح تيساليا وزواجه بامرأة من عائلة تيسالية نبيلة ولوج مقدونيا إلى الشئون الإغريقية. وفي السنة التالية تمخض تحالف - عززه من جديد الزواج بابنة الملك - عن روابط مقدونية قوية مع إبيروس. وأقرب من ذلك إلى قلب مقدونيا، أنه أعيد توحيد مقدونيا العليا مع المملكة سنة 358، وبدأ فيليب يستخدم القوة في محاولة لعرقلة الوجود الإغريقي، وخصوصا الأثيني، في الأرض الواقعة شمال غرب بحر إيجة. وفي عام 357، هاجم مستوطنة أمفيبوليس الأثينية المجاورة لنهر سترايمون واستولى عليها، تلك المستوطنة التي ظلت شوكة في الجنب المقدوني الشرقي لمدة 80 سنة.
اتبع فيليب طوال حكمه خطة تحالف مماثلة يتممها الزواج والدبلوماسية والحملات. كانت القوة العسكرية عنصرا أساسيا في أي أمل في النجاح؛ ومن ثم، على الرغم من تعذر تحديد التواريخ الدقيقة للتطورات، فالأرجح أن إعادة بناء وإصلاح الجيش الذي دمر سنة 359 كانت من أولويات فيليب العاجلة. كان قد حظي برؤية الإصلاح الكبير الذي أدخلته مدينة طيبة اليونانية على تشكيل المشاة الثقيلة «الفلنكس» رأي العين، بينما كان رهينة في طيبة (367-364) في مستهل شبابه (بين 15 و18 سنة من عمره). وتتجلى أهمية هذه المعرفة في نجاحها في مساعدة طيبة على إنشاء إمبراطورية خاصة بها بعد هزيمة الجيش الإسبرطي سنة 371، وكان حتى ذلك الحين صاحب اليد العليا. ونناقش التغيرات التي طرأت على الجيش المقدوني مناقشة أتم في وصف ميراث الإسكندر من فيليب في الفصلين الثالث والخامس، بينما سنكتفي هنا ببيان ملامحه الرئيسة، كإنشاء قوات مشاة أخف حركة ومسلحة برماح أطول، والتوسع في الخيالة، وإنشاء سرايا خاصة من المشاة الخفيفة والخيالة الخفيفة، وتطوير آلات للحصار. ومع اتساع رقعة المملكة، سواء أكان ذلك من خلال الفتوحات أم التحالفات، توافر المزيد من الجنود. وبالاستخدام الكفء للموارد، تسنى لهم الوجود دائما في الميدان، سواء في حملات أم لأغراض التدريب.
Unknown page