وفي هدأة الليل وقد نامت العيون، كان شيخ في الستين يدلف حذرا في الطريق إلى بركة الفيل، حتى بلغ دارا لم يرتج بابها فنفذ من ورائه إلى الطريق شعاع يتراقص، فدفع الشيخ الباب في خفة ودخل، ثم أغلقه فأحكم رتاجه، ووضع عباءته عن كتفيه وانتصبت قامته، واستقبلته جارية كانت تنتظره ثمة فسألته: هل أنبئ مولاتي؟
قال: نعم، قولي لها قد جاء الغوري لموعدك يا خوند، وإن به حاجة إلى أن يعود إلى داره قبل أن يتقدم الليل.
وكانت خوند أصل باي تنتظر، فلم تكد تنبئها الجارية بمقدم قنصوه الغوري حتى هبت واقفة وتهيأت لاستقباله.
والتقى الأمير الشيخ بالأميرة الكسيرة الجناح التي كانت ذات يوم أحظى جواري السلطان قايتباي، ثم لم تزل من بعده آمرة ناهية في عهد ولدها الناصر، وأخيها الظاهر، وزوجها جانبلاط.
أين هي اليوم مما كانت تنعم به من الجاه والمجد والسلطان؟! لقد ذهب ذلك جميعا، وتخضب سيف العادل طومان باي بدم ولدها وزوجها، ولعله يدبر الساعة لأخيها الظاهر في معتقله ما يدبر من كيد ليؤمن ظهره، ولم يكفه هذا الذي صنع، فسلط عليها زبانيته يحاولون أن يغتصبوا ما ادخرته من مال في أيام عزها؛ ليكون لها عونا في تلك الأيام الشداد ...
قال الغوري: إني والله يا خوند ليعز علي ما نالك على يد ذلك السلطان الغاشم، وإني إلى ذلك لأعجب كيف رضي لك مماليك السلاطين الأربعة هذا الهوان، فلم يدفعوا عنك أذاه، ولم يحاولوا أن يأخذوا بثأرهم منه؟!
قالت ورفعت منديلها إلى عينيها تجفف عبرة: شكرا يا أمير، وإنها لمروءة أن تذكرني حين لا يذكرني أحد، وقد كان مماليك السلاطين أهلا لأن يدفعوا عني ويأخذوا بثأرهم، لولا ما بيني وبينهم من حجاب، ومن أين لي أن ألقى أحدا من أمرائهم فأتحدث إليه! فلولا أنك تذكرني لغاب عني أنني كنت يوما سلطانة وكانوا لي بطانة، وإني لأشتري قطرة من دم ذلك الباغي بكل ما أملك من مال. فقد نذرت نذرا أن أتخلق أنا وعيالي بدمه، بما أثكلني ورملني وأسخن عيني.
قال الغوري: أرجو أن تجدي وفاء نذرك يا خوند وتقري عينا؛ فقد آلمني وبلغ من نفسي مبلغا بعيدا أن يطيش ذلك السفاك حتى يسلط عليك زبانيته يستصفون مالك، فلا يتركون لك أبيض ولا أصفر.
ثم صمت برهة وعاد يقول والكلمات تتعثر على شفتيه: وإن علي دينا لأستاذي قايتباي ولك، يقتضيني أن أمد إليك يدي بما أملك من مال قليل، يكون لك عوضا مما انتهب هؤلاء اللصوص.
فابتسمت أصل باي وقالت مزهوة: وهل حسبتهم - كما زعموا وزعم الناس - قد أخذوا من مالي إلا قلامة ظفر! فالحمد لله على نعمته وشكرا لك.
Unknown page