وكأنما كان شيوع الخبر في المدينة بالقبض على طومان باي أذانا يدعو المصريين إلى الكفاح، فولوا وجوههم نحو النيل حيث ينتظرون مقدمه، يتوقعون كل يوم أن يثور غباره، فينضووا تحت لوائه لجهاد ذلك العدو الباغي، وطال ارتقابهم أياما ولم يظهر طومان باي، وما كان له أن يظهر وهو أسير في يد ابن عثمان.
وقال خاير بك للسلطان سليم: أرأيت يا مولاي ماذا يكون لو أفلت من يدك طومان باي، وهذا الشعب على ما ترى من نية الانتقاض والغدر؟!
قال جان بردي الغزالي: وما أراهم يصدقون أو يستكينون حتى يروا بأعينهم أميرهم في الأغلال بين يدي حراسه.
قال خاير بك: بل ما أراهم يصدقون حتى يروه مشنوقا، قد شدت حول رقبته الحبال وتدلى جسده على باب زويلة، وحينئذ يستتب لمولاي الأمر.
قال السلطان سليم وقد غامت على وجهه سحابة: فسنوكب له غدا موكبا يشق به المدينة في أغلاله؛ حتى يراه كل ذي عينين في القاهرة، فيعلم أن الحكم اليوم لسليم ابن عثمان!
وكان أرقم مما به من الهم والضيق لا يكاد يعي، فليس يدري أيصدق ما يرجف به الناس أم ينكره، لقد مضى بضعة عشر يوما منذ معركة إنبابة ولم ير أثرا أو يسمع خبرا عن السلطان طومان باي، فأين يكون إن لم يكن أسيرا في يد ابن عثمان؟!
وكانت نوركلدي من حديث نفسها في قلق ووسواس، فهؤلاء جند العثمانية يسلكون الدروب ويجوسون خلال المدينة آمنين، تطفح وجوههم بشرا وتتراءى في عيونهم أمارات الاطمئنان، كأنما استتب لهم الأمر فليس وراءهم ما يخشونه أو يحسبون حسابه، وهذا أرقم صامت لا ينطق كلمة ولا يتحدث إليها بحرف يرد إلى نفسها الهدوء والطمأنينة، وكلما همت أن تسأله أو تتحدث إليه ردت نفسها؛ مخافة أن يفضي إليها بما لا تريد أن تسمع من الأنباء.
وضاقت آخر الأمر بما يهجس في نفسها فلم تجد طاقة على الصبر، فتقدمت إليه تسأله وفي عينيها قلق وفي وجنتيها شحوب!
وأرهفت أذنيها للسمع، ولكنها لم تسمع جواب أرقم، ولعله لم يجبها ولم يفتح فمه، فقد كان مثلها مرهف السمع يريد أن يستبين ما يترامى إلى أذنيه من أصوات في الطريق، وزياط وضجة وهتاف يتردد صداه بين جدران المدينة الأربعة، ولا تكاد تبين منه كلمة أو يتميز صوت من صوت ...
وأسرع الشيخ والشيخة إلى النافذة يستطلعان النبأ ...
Unknown page