قال أبرك لمولاه: فو الله يا سيدي ما غاضبته إلا إشفاقا على هذه الدولة من عاقبة ما يدبر لها، وإن خاير اليوم لذو تدبير وحيلة!
اعتدل طومان باي في مجلسه وقال: ماذا تعني يا أبرك، فما علمت قبل اليوم أن لخاير تدبيرا يصيب، إلا أن يكون ذلك بسبيل امرأة!
قال أبرك: فهذا من ذاك يا مولاي، وما تزال الرسل والرسائل تترى بينه وبين مصرباي الجركسية، منذ عاد من رحلته إلى القاهرة آخر مرة، وقد أجدت له هذه الرحلة أماني ومطامع، فهو اليوم رجل آخر غير الذي تعرفه يا مولاي ...
قال طومان قلقا: ولكنك لم تحدثني يا أبرك عن تدبيره ذاك ما شأنه وما غايته؟
قال أبرك: ذاك ما لا أعرفه على التحقيق يا مولاي، ولكن مكانه في تلك الإمارة البعيدة على الأطراف، قد أتاح له صلات من الود بينه وبين جيرانه من أمراء ابن عثمان، فهو يهدي إليهم ويهدون إليه، والرسل بينه وبينهم لا تكاد تنقطع، وبينه وبين جان بردي الغزالي أمير حماة صلات أخرى ...
قال طومان وقد زاد به القلق: جان بردي الغزالي! - نعم يا مولاي، وإن جان بردي ليتعبد له كأنه مولاه، ثم هناك علاء الدولة أمير مرعش وديار بكر، وأنت تعلم يا مولاي ما بينه وبين ابن عثمان من القطيعة والجفوة، فإن بين خاير وبينه من أمارات العداوة، على قدر ما بينه وبين ابن عثمان من المودة، كأن أمير مرعش وديار بكر ليس مثله أميرا من أمراء مصر على بلد من بلاد السلطان الغوري، أو كأن خاير أمير من أمراء ابن عثمان!
هب طومان باي واقفا وراح يذرع الغرفة ذهابا وجيئة، قد بلغ به القلق مبلغا بعيدا، وراح يتحدث إلى نفسه همسا لا يكاد صوته يبلغ أذنيه، ولكنه مما يصطرع في رأسه من الهواجس، يخال أن لذلك الهمس صدى يتجاوب بين جدران الغرفة الأربعة، فيرتد إلى أذنيه ضجيجا صاخبا لا يكاد يطيقه!
ثم عاد فاستقر في موضعه وهو يقول لغلامه: ثم ماذا يا أبرك؟
قال أبرك: لا شيء يا مولاي إلا ما علمت منذ قريب من أمر خشقدم الرومي، فقد بلغ في بلاد الروم منزلة ومكانة، وله أخ في حاشية السلطان سليم قد هيأ له مكان الحظوة والجاه عند السلطان؛ فهو اليوم من جلسائه وأصحاب سره، وقد استفاض بين الناس أن خشقدم قد زين للسلطان سليم أن يغير على بلاد السلطان الغوري، وكشف له عن عوراتها وأطلعه على أسرار الدفاع، ولا يزال الناس على بلاد الحدود في هم منذ استفاضت بينهم هذه الأخبار ... وبين خشقدم اليوم وخاير بن ملباي رسل ورسائل ومودة وثيقة.
هز طومان باي رأسه حنقا وهو يقول كأنما يحدث نفسه: كذلك تضيق حلقاتها على عنق السلطان، والسلطان في غفلته لا يكاد يفطن إلى ما يدبر له، ولقد رأيت خاير في زيارته الأخيرة للقاهرة ، وهو يشهد موكب السلطان في أبهته وتمام زينته، فكأن قد رأيت في عينيه وقتئذ خيال أمنية يتمناها مما بهره من جلال ذلك الموكب، وكأن قد سمعت من ورائه صوت مصرباي هاتفة: إلى العرش يا خاير! فإن مصرباي تتمنى أن تعود سلطانة.
Unknown page