واحمرت عينا الغوري وانتفخ منخراه، وصاح بعتيقه الماثل بين يديه: اسمع يا خشقدم، لا يمكن أن تكون لي ولجاني باي في وقت معا، فاختر أمان السلطان أو صهر جاني باي ...
قال خشقدم منزعجا: مولاي ...
فقاطعه السلطان صائحا: اسكت، إنما هو ما قلت لك، فإما طلقت بنت جاني باي لتخلص لي، وإما نالك ما يناله!
اصفر وجه خشقدم واختلجت أطرافه، وقال مسترحما: وبني وبناتي يا مولاي، ما خطبهم وما خطبي؟ وما ذنب زوجتي المسكينة؟ لقد حلت النقمة على أبيها، فادخرني لها يا مولاي واجعلني بعض إحسانك إليها وإلى هؤلاء البنين والبنات.
قال الغوري ولم يزل في سورته: لقد حكمت، فاختر لنفسك!
ثم ولى وجهه ليؤذن عتيقه بالانصراف، فمضى يتعثر في خطاه، وقد دارت به الدنيا وثقل رأسه بما يحمل من الهم، فلولا أنه جلد لانهار على الطريق ليس له وعي ولا رشاد ... - ماذا وراءك يا خشقدم؟ - الخير يا سورباي إن شاء الله! - هل قبل مولاي شفاعتك؟ - نعم! - وهل يطلق أبي؟ - نعم! - متى يا خشقدم؟ - يوم يحين أجله!
دقت المرأة صدرها يائسة وهي تقول: ماذا قلت يا خشقدم؟ أليس يريد السلطان أن يطلق أبي؟ أحكم عليه بالموت في هذا العذاب؟
قال خشقدم وعيناه عند موطئ نعله: سيموت أبوك في هذا العذاب، وستخرجين من داري مطلقة لا زوج لها، وسيعيش بنونا وبناتنا في هذه الدار أطفالا بلا أم، أو يصحبونك حيث تكونين ليعيشوا معك يتامى بلا أب! بهذا حكم السلطان.
ثم هب واقفا وقال وقد ارتفع صوته واختلجت ألفاظه كأن فيها نبضات قلبه: ولكن شيئا من ذلك لن يكون ... ستعيشين لي وتبقين في داري، وسيعيش بنونا وبناتنا تحت جناح الرحمة من عطف الأب وحنان الأم، وسيعلم الغوري أين منقلبه!
ثم عاد إلى مقعده هادئا ثابت الجأش، فأسند رأسه إلى راحته وراح يفكر، وطال تفكيره، وطال استناد رأسه إلى راحته، وتعاقبت الساعات وهو لم يزل في مجلسه ذاك وفي هيئته تلك، وزوجته بين يديه صامتة ترمقه بعينين فيهما قلق وإشفاق، لا تكاد تتحرك في مكانها، ولا يكاد هو يراها أو يحس أنها منه في مكان قريب، فلما أوشك الظلام أن يبسط رداءه، رفع خشقدم رأسه وألقى إلى زوجته نظرة مطمئنة، ثم قال في صوت هادئ: تأهبي منذ الغد يا سورباي لرحلة طويلة!
Unknown page