ترى كيف تعاني وحدتها وذكرياتها؟! وسرعان ما استعدت ذكريات صباي في قصر أبي بسايس، وحوار الكبار المحموم حول الإعصار الذي أطاح بأرض مصر، والإمبراطورية، وما سموه بحرب الآلهة، وفرعون الشاب الذي مزق التراث والتقاليد، وتحدى الكهنة والقدر. أجل، تذكرت تلك الأيام المنسية، وما قيل عن دين جديد، وتمزق الناس بين الإيمان والولاء، والجدل حول الحقائق الغامضة، والهزائم المريرة، والنصر المقترن بالحزن. ها هي مدينة العجائب مستسلمة للموت، ها هي سيدتها سجينة تتجرع الألم في وحدة، ها هو قلبي الشاب يدق بعنف طامحا لمعرفة كل شيء. وقلت لأبي: لن ترميني بحب الدعة بعد اليوم يا أبي، إن رغبة مقدسة تغزوني مثل ريح الشمال كي أعرف الحقيقة وأسجلها كما كنت تفعل في صدر شبابك يا أبي ...
فرمقني أبي بعينيه الكليلتين وتساءل: ماذا تريد يا مري مون؟ - أريد أن أعرف كل شيء عن هذه المدينة وصاحبها، عن المأساة التي مزقت الوطن وضيعت الإمبراطورية ...
فقال بجدية: ولكنك سمعت كل شيء في المعبد.
فقلت بحماس: قال الحكيم قاقمنا: «لا تحكم على قضية حتى تسمع الطرفين!» - الحقيقة هنا واضحة، فضلا عن أن الطرف الآخر، المارق، قد مات ... فقلت بحماس متصاعد: أكثر الذين عاصروه ما زالوا أحياء يا أبي، وجميعهم أقران لك وأصدقاء؛ فأي توصية منك لهم خليقة بأن تفتح لي مغاليق الأبواب ومكنون الأسرار؛ بذلك أحيط بجوانب الحقيقة قبل أن يأتي عليها الزمن كما أتى على المدينة ...
وواصلت إلحاحي عليه حتى استجاب لرغبتي، بل لعله تحمس لها في باطنه لسابق ولعه بتسجيل الحقائق، ولرسوخه في العلم الذي جعل من قصرنا منتدى لرجال الدين والدنيا؛ حتى عرف بين صحبه ب «صاحب الأرض الطيبة والحكمة النادرة»، كما عرف قصره بالندوات تروى بها الحكايات، وتردد الأشعار، وتمتد بها موائد البط والنبيذ.
وحرر لي رسائل توصية للكبار الذين عاصروا الأحداث، من شارك فيها من قريب أو بعيد، من ذاق حلوها ثم مرها، ومن ذاق مرها ثم حلوها. وقال لي: اخترت سبيلك بنفسك يا مري مون، فاذهب في رعاية الآلهة، أجدادك ذهبوا للحرب أو السياسة أو التجارة، أما أنت فتريد الحقيقة، وكل على قدر همته، ولكن احذر أن تستفز صاحب سلطان أو تشمت بساقط في النسيان، كن كالتاريخ يفتح أذنيه لكل قائل ولا ينحاز لأحد، ثم يسلم الحقيقة ناصعة هبة للمتأملين ...
وسعدت جدا بالخلاص من الخمول، والتوجه إلى تيار التاريخ الذي لا تعرف له بداية، ولن يتوقف عند نهاية، ويضيف كل ذي شأن إلى مجراه موجة مستمدة من حب الحقيقة الأبدية ...
كاهن آمون
رجعت طيبة إلى عهدها الزاهر بعد أن ذاقت مرارة الهجران والانطواء على عهد «المارق». أصحبت العاصمة من جديد، يزين عرشها فرعون الشاب توت عنخ آمون، وعاد إليها رجال السلم والحرب، واستقر الكهنة في معابدهم، وعمرت القصور، وغنت الحدائق، وشمخ معبد آمون بأعمدته العملاقة وحديقته الزهراء، وماجت الأسواق بالباعة والناس والسلع. كل شيء يتألق بالعزة والاستقرار، وتيار السابلة لا ينقطع. وكنت أزورها لأول مرة في حياتي، فبهرني جلالها وأبنيتها وناسها الذين لا يحيط بهم حصر، واقتحمتني أصواتها ونداءاتها وعجلاتها ومحفاتها، فتبدت لي بلدتي سايس بالمقارنة قرية خاملة خرساء. وقصدت في الموعد المضروب معبد آمون، فاخترقت بهو الأعمدة في إثر خادم، ثم ملت إلى دهليز جانبي أوصلني إلى الحجرة التي انتظرني بها الكائن الأكبر. رأيته يجلس في الصدر على كرسي من الآبنوس ذي مقبضين من الذهب، شيخا هرما حليق الرأس، داخل نقبة طويلة واسعة، يلف أعلاه بوشاح أبيض. وضح لي أنه رغم شيخوخته يتمتع بحيوية فائقة وقلب مطمئن. حيا أبي ونوه بإخلاصه قائلا: عرفتنا المحنة بالمخلصين من الرجال.
وأثنى على مشروعي متمتما: لقد حطمنا الجدران بما سجلت من أكاذيب، ولكن الحقيقة يجب أن تسجل.
Unknown page