أما سيدنا موسى - عليه السلام - فقد نهى قومه عن ممارسة استحضار الأرواح؛ حيث جاء في سفر التثنية:
لا يستعملن أحد منكم السحر والرفاء، ولا يستحضرن الأموات لاستطلاع الحقيقة.
ولا يزال النزاع قائما بين الروحيين والماديين في مسألة وجود نفس مدركة عاقلة في الإنسان، فأصحاب الدين يقولون بالروح، وهي مصدر الذات العاقلة، والماديون يكفرون بذلك، ويقولون بأن الدماغ مصدر القوى العاقلة في الإنسان، وأن نسبة الدماغ للفكر كنسبة البول للكلى، أو الصفراء للكبد، فهم يجحدون كل ما هو غير «هيولاني»؛ أي كل ما هو غير مادي، ويقولون بأن الإنسان إن هو إلا آلة مادية، تتلاعب به التأثيرات الخارجية، حتى إذا جاء أجله انطفأ نور الفكر، وانعدم كل شيء.
نقول: «فإذا نظرنا إلى ما جاءنا به العلم سيما علم الفزيولجية على لسان علمائه الطبيعيين؛ نجد أنهم يقولون بأن كل حركة تصدر من إنسان أو حيوان إنما يصحبها احتراق جزء من المادة العضلية، وكل فعل من الحس أو الإرادة ينشأ عنه فناء في الأعصاب، وكذا كل تفكير ينشأ عنه إتلاف في الدماغ، ومعنى هذا أنه ليس يمكن أبدا لذرة واحدة من المادة أن تصلح مرتين للحياة، فإذا ما بدأ عمل عقلي أو عضلي فالجزء من المادة الحية الذي يصرف لصدور هذا إنما ينعدم تماما، فإذا عاد العمل وتكرر فمادة جديدة تصلح لصدوره ثانية، وكذلك دواليك، والقاعدة أن النسبة محفوظة في الإتلاف، أي إنه كلما اشتد ظهور الحياة ازداد تلف المادة الحية، وإنما المادة المستجدة الداخلة في الدم بواسطة الهواء والمواد الغذائية تعوض من هذا التلف باستمرار، وإنما يرتبط هذان العاملان الواحد بالآخر، فعامل الإتلاف وعامل التجديد يتصل الواحد بالآخر في الكائن الحي، وعامل التجديد سري خفي، أما عامل الإتلاف فيبدو للعيان، والحاصل من هذا عند العقل أن جسمنا يتجدد مرات كثيرة في مرحلة الحياة.
يقول الماديون: إن الذاكرة عبارة عن اهتزازات فسفورية، تتخزن في القلية العصبية من الدماغ بعد أن تصل إليها التأثيرات الخارجية، فإن صح ذلك، وإذا تقرر أن كل ما فينا من قلالي عصبية، وأنسجة عضلية، وعظام تنعدم وتتجدد في فترة معلومة لا تزيد على السبع السنين؛ لاقتضى لقوة الذاكرة أن تنقص فينا بالتدريج إلى أن تتلاشى في سبع سنين، وأن نضطر في كل سبع سنين إلى تجديد كل ما تعلمناه سابقا، على أنا نشعر بأن الأمر على العكس؛ ذلك بأن تيار المادة المتجددة فينا لم يحدث أقل تغيير في ذاكرتنا، وأنا في إبان الهرم نذكر أمورا وقعت في حداثتنا، وعليه فالواقع ينطق بأنه برغم استبدال ذرات كياننا، فإن كل ما فينا يؤيد ثبات شخصيتنا، وهو ما يدل على أن هناك غير «الهيولي» نفسا أو روحا، يقيها جوهرها اللطيف من كل ما يطرأ من تحول أو تقلب ينتاب المادة، على حين أن هذا لا يمنع من انطباع صور الحوادث والذكريات فيها وكذا المعارف والعلوم انطباعا يدوم زمانا طويلا، وهو عمل القدرة الإلهية.»
أولم يروا إلى التنويم المغنطيسي، ويشاهدوا كيف يكون اتصال النفس بالجسد؟ وكيف تقوم بأعمال غريبة مدهشة؟ وكيف تظهر في النفس قدرات تخفى في غير هذا الموقف؟ إنهم إن لم يؤمنوا بما أظهرتهم عليه الطبيعة أمهم كانوا من الضالين المتعنتين، ومعلوم أن مرجع الانفعالات والتأثيرات الدماغ، ومعلوم أن الانفعالات والتأثيرات الخارجية تهتز الألياف الدقيقة التي تحمل هذه التأثيرات إلى المجموع العصبي؛ لينقذها ويجري حكمه فيها، ومعلوم أن الأعصاب قد اختصت كل منها بوظيفة خاصة تقوم بها، فلا أعصاب السمع تؤثر في أعصاب البصر، ولا هذه تؤثر في غيرها، وإنما يقوم كل عصب بما خلق له. ونحن إذا بحثنا مثلا حاسة البصر نجد أن الحركة التموجية في الأثير - بتأثيرها في شبكة العين - تحدث في العصب البصري اهتزازا، ونجد أن هذا الاهتزاز يمتد إلى الطبقة البصرية المستقرة في وسط الدماغ، قال: ومن هنا يندفع إلى مركز الحواس، حيث ينتشر في القلالي الدقيقة، ويوقظ العناصر التي وظيفتها نقل التأثيرات البصرية. إذن فكل هذه التأثيرات الحسية تتفرق ثم تجتمع في مكان خاص من الدماغ، وقد أثبت التشريح وجود أماكن معينة في الدماغ لتجمع وتكييف هذه التأثيرات، ولقد أثبت العلماء الفزيولوجيون بالتجربة أنهم إذا قطعوا من المادة المخية قطعة أصولية؛ يفقد الحيوان قوة إدراك التأثيرات السمعية أو البصرية.
فإذا سألت أحد الماديين: كيف تتحول هذه الحركات الاهتزازية بعد وصولها إلى مراكزها النسبية من الدماغ إلى أفكار فهمية؟ قال: إنها حينما تبلغ القلالي الحسية يحدث فيها من رد الفعل ما يحدث في قلالي النخاع الشوكي.
قال: وهذا يحدث في ضفدعة قطع رأسها، ومع ذلك تتشنج رجلها لدى مسيسها بحامض مهيج، قال: فالأمر نفسه يحدث في مؤثرات القلالي الحسية من الدماغ؛ أي إن القلية القشرية عندما يبلغها الاهتزاز الخارجي تنتبه، وتفزع القوة الكامنة فيها، وتمتد الحركة حتى تبلغ القلالي الغليظة، وهذه تنقلها إلى المادة الرمادية ذات الأخاديد فيها من الدماغ التي تقوي الاهتزازات، وتدفعها إلى الأعضاء على شكل تأثير أو أمر أو محرك.
إنا نسلم مع ناكري النفس بكيفية مجرى الحس المعبر عنه بالاهتزاز العصبي، بيد أن هؤلاء فاتهم أمر خطير بين بلوغ الحادثات إلى الدماغ ورد الفعل، هو حادث الإدراك، أي دراية الشخصية الإنسانية بما حدث من الأمور الخارجية، ذلك أن الاهتزازات والتهيجات العصبية إن هي إلا حركات مادية، تولد حركاتها مثلها ولكنها لا تحدث إدراكا، وما نتيجتها سوى تنبيه القوة العاقلة لإدراك مصدر هذا التنبيه وعلته وغايته.
قال: إن القلية العصبية المركبة من كميات متناسبة من الكوليسترين والماء والفوسفور وحامض الأوميك إلخ ... ليست بذاتها قوة مدركة، والحركة الاهتزازية هي بذاتها حركة مادية محضة، فكيف يعقل أن اهتزاز هذه القلية العصبية وانتصابها يولد إدراكا؟ وهنا ما يعجز الماديون عن تبيانه، أما الروحيون فيعلموننا وجود شخصية عاقلة فينا تسمى نفسا، تنتبه بهذا الاهتزاز إلى ما طرأ من الحوادث الخارجية، وعندما يتم انتباهها هذا يحدث الإدراك.
Unknown page