إذ كان أول ما قام في ذهنه أن ذينك الرجلين لا يمكن أن يكونا إلا من عمال الكهنة أو مأجوريهم، وأن والد الفتاة معذور في ظنونه التي يحللها جهله بمجاري الأمور في مصر، ومصير أحوال الأحزاب فيها، فزادته هذه التأملات غضبا على غضب من جهة الكهنة، بقدر ما بعثت من رحمة فؤاده نحو والد الحبيبة، ففتح الحرب برسالة خصوصية بعث بها إليه يقول له فيها ما معناه:
تعلم أيها الملك ما أنا آت في بعض قواتنا البحرية من أجله، وتعلم كذلك أن الرماسسة إذا قالوا قالوا صادقين، فإن كان الحامل لك على إغرائك الممالك المتطوعة إلى حد خروج أكثرها من طاعة جلالة مولاي ووالدي الملك، هو حسبانك أن جلالته أو لنا يدا خفية في مصيبتك بالأميرة عذراء الهند، فتحقق أنك مخطئ في حسابك، واهم في ارتيابك، وثق أنني سأكون معك على الأيام، وفي هذه الحادثة التي لها بقلبي كما بقلبك إيلام. والآن إذ قد صدقتك الكلام، فإني أدعوك لتكف يد المساعدة عن الولايات الثائرة، وإلا عددتك عدوا لمصر ولجلالة الملك، فلا أبرح الهند قبل إنزالك عن سرير ملكك. والسلام.
التوقيع
آشيم
فحين وردت هذه الرسالة على «دهنش» أمعن النظر فيها، فخرج من جنونه ورجع عن سوء ظنونه، فكف للحين عن مؤازرة الثائرين، فكفوا صاغرين، ودخل «آشيم» الولايات فاقتص من كبار الثوار، وأقر فيها الأمن وكان بغير قرار، ثم بارح على الفور الهند آيبا بالأسطول إلى مصر، ينهب البحار نهبا ويقرب بعيدها غصبا، وهو يكاد يفقد السلامة جزعا وكربا، حتى عاد لمصر، وهنالك حدثه أصحابه حديث عذراء الهند من أوله إلى آخره، وأن الكهنة لم يكتفوا بهذه الضربة القاسية، بل نالوا «رادريس» أيضا حتى اتهمه الملك بكونه هو محدث الحادثة، ومضيع الأميرة بسبب الأوامر المزورة المرسلة منه إلى الضابط حارس القصر، وأنه من ذلك اليوم في السجن الخصوصي بطيبة حتى ينظر مجلس القضاء الأعلى في قضيته فيحكم له أو عليه.
فلم تزد «آشيم» هذه الأخبار إلا بلاء وكربا وحيرة وجنونا، وبدت عليه آثار ذلك كله بغتة تتهدد سلامته وتنازعه قوى الحياة، حتى أمسى خواص الأمير يتوقعون إصابة السهم ويتخوفون من حلول الفناء المتعجل، واشتغل الأطباء بهذا الأمر الجلل فتداعوا وتراعوا فقرروا العلاج اللازم، ثم أجمعوا أن الأمير يكثر الخروج إلى بعيدات البيد وأقاصي الفلوات للصيد بنفسه، فإن لم يستطع فبرجاله، وأن يكون للبدو من أوقاته الشطر على الأقل وللحضر الشطر.
فكان الأمير يرحل في خيامه وخيله، فيقضي اليومين والثلاثة على بعض البيد في الصيد، والتمتع من شميم هوائها النقي الخالص بعضه إلى بعض. وهذا وإن كان لا ينفع إلا القلوب الخالصة كذلك، إلا أن صحة «آشيم» كانت تأخذ منه غصبا بقدر ما كانت تعطي الهم والكدر، وتنيل الكآبة والفكر، وموصول الوجد والسهر، بحي كان العليل يظل وهو لا له ولا عليه، ولا من ثمرات التداوي بالطبيعة شيء في يديه.
فبينما هو ذات يوم مألوف تلك العادة في الصيد، بعيدا عن رجاله وكان يوما من أيام قوته ونشاطه، عن له حيوان غريب الشكل تنكره عين المصري لأول وهلة، فطرده فجرى فقفاه بجواد ينهب الثرى، أما الحيوان فاندفع رخي العنان، يعدو كأنه شيطان، ماض في حاجة لسليمان، فبينما هو كذلك في غايات جريه عرفه عارف فناداه مرددا: يا حارس يا حارس، فاستوقف الوحش هذا النداء، وأنساه البلاء الذي وراء، فالتفت فبدا له أشخاص من بعد، فقصد وجهتهم فإذا هو بمولاته عذراء الهند تناديه وتخف للقائه وتحييه، فأكب على ساعديه دون أقدامها، كالمتنصل المعتذر عن شيء جنى، أو المذنب المستوهب العفو عن ذنبه.
ثم ما هي إلا لحظة حتى أدركه الأمير، فأدرك حارس الغرام؛ بل أدرك القصد وكل المرام؛ حيث جمعت العناية الشتيتين، ودانت الصدفة بين المحبين، بعد أعوام فراق وبين، فوقفت الفتاة وهي بعظم منة الأقدار عليها، أشد منها تأثرا بحضور الحبيب لديها، ولسان حالها المعقود بنشوة بلوغ المرام، ينشد في المقام (البسيط):
يا آنة جمعتني بالحبيب فدى
Unknown page