ولم يخب ظنها، فإن الشبح تقدم بعد هنيهة منها حتى ظهر لها تماما أنه محمد العبد بعينه. وكان شابا طويل القامة، قوي البنية، نحيف الجسم، أسمر اللون، يناهز السابعة عشرة من عمره، خفيف الروح رغما عن جحاظة عينيه!
ولما صار منها مثل قيد الرمح، خفق فؤادها بشدة وأسلبت جفونها حياء، أما الشاب فقال لها: ازيك يا ست الدار؟ - الله يسلمك يا محمد. - فين مدللة؟ - رجعت قبلي من البابور. - كنت ناوي آجي البابور بعد صلاة المغرب. - يا سلام يا محمد! يخلصك قعادي بعد المغرب في البابور؟ - ليه؟ - إنت موش عارف إيه اللي بيحصل هناك من الحاجات المسخرة بين النسوان والطحان؟ وزيادة على كده جه أحمد زايد وقعد يناكف فينا طول النهار. - أحمد زايد كلمك؟ - لأ، ولكن كان بيحدف علي الكلام، وقال لست أبوها إنه رايح يتجوزني غصب عن أبويه وعنك! - إزاي رايح يتجوزك وأنا مكتوب كتابي عليك! - شوف بقه! - طيب وانت ماقلتيش حاجه؟ - لأ. - قومي بقى يا اختي روحي أحسن يتمسى عليك الوقت. - حاضر.
ثم قامت وأخذت القفة بين يديها فساعدها خطيبها على وضعها فوق رأسها، ثم قالت له: اتمسه بالخير يا محمد. - يسعد مساك يا ست الدار.
وبعد هذه المحادثة سارت الفتاة إلى بيتها فرأت محمدا عبد النبي وزوجته يضعان النورج فوق الجرن، فسلمت عليهما فردا عليها السلام، وقال لها محمد عبد النبي أن أباها حسن علي محفوظ ذهب إلى بابور الطحين للبحث عنها، فتركتهما ودخلت بيتها تمني النفس بقرب اجتماع شملها بخطيبها وحبيبها.
الفصل الثاني
الحديث ذو شجون
من عادة القرويين أن يقضوا شطرا من ساعات لياليهم في المسامرة مع بعضهم، وفي تلك البرهة يتباحثون في المسائل الزراعية، ويتناقشون في الموضوعات التي تعنيهم، وفي بعض الأحيان يتسلون بقصص عنترة وأبي زيد الهلالي، ويتفكهون بنكات (عم) أبي نواس و(الحاج) جحا، وإن كان لأحدهم ظلامة أو شكاية رفعها إلى هذا المجلس فيصلحون ما بينهم، وإذا تعذر عليهم الحل رفعوها إلى العمدة، إلى غير ذلك مما يسمح لنا القارئ بأن نسمي مجلسهم «بالنادي» بكل معانيه، إذ أعضاؤه من طبقة واحدة، ومن فكر واحد، وفي بلدة واحدة، ويشتغلون بمهنة واحدة. وللقرويين حرية في الفكر والمناقشة، فللابن أن يحاج أباه، وللأخ أن يناقش أخاه، وليس بعيب إذا جادل الولد الشيخ، وللمرأة حظ الاجتماع والمناقشة كالرجل سواء بسواء كما يتمنى سعادة صاحب «تحرير المرأة» ويود!
فعلى هذه العادة المحمودة اجتمع أهالي دنشواي في ليلة 7 يونيو تحت أشعة القمر الفضية بجانب جرن هناك لمحمد زهران، وأخذوا يتحدثون في أمور شتى، وكان بين المجتمعين حسن علي محفوظ وابنته - موضوع روايتنا - ست الدار، وخطيبها محمد العبد، وأخته مدللة، ومحمد زهران صاحب الجرن، وامرأته مباركة بنت حسن، ومحمد أحمد السيسي، وسليمان الفرماوي، والسيد العوفي، ومحمد علي سمك، وأحمد زايد، وغيرهم، وبعد حديث طويل، قال محمد أحمد السيسي: إنت يا حسن يا محفوظ حوش الحمام بتاعك من أجران الناس. - ليه يا ابني؟ - أحسن بينزل يلقط الحب. - يعني ما فيش حمام في البلد غير حمامي بينزل على جرنك؟ - موش شغلي. - طيب واشمعنى بتقول لي وما بتقولش لمحمد زهران اللي حمامه جنب جرنك؟ - أنا بقول لك وباسمع غيرك.
فشد محمد زهران من لفافة تبغه نفسا ثم رماها بقوة، وقال، بعد أن تنهد: هو محمد زهران بقى عنده حمام من السنة اللي فاتت؟ مصطادوه الإنجليز كله!
فقالت مدللة: من حق يا عم زهران؛ عملت إيه مع العمدة محمد الشادلي على شان الحمام؟ - ولا حاجة يا بنتي، أنا لما رحت عند محمد الشادلي، وقلت له إني رايح أروح مصر، واشتكي عند باشة الإنجليز عمل الخواجات في الحمام وتخريب الأبراج، قال لي إنه رايح هو يشتكي للمديرية ... وحلف لي بمقام السيد البدوي إنه يجيب لي منهم تعويض. - وبعدين؟ - وبعدين راحت نومة.
Unknown page