وأوله إغراء الروم بالهجوم ولهم عون من تلك القبائل ومن يجتمع إليها من المجترئين والمتحفزين، ولما تقعدهم عن الاجتراء والتحفز هيبة جيوش الإسلام.
ولقد أدرك أناس في عصر أبي بكر صواب الرأي في إنفاذ تلك البعثة بعد إنفاذها وعودتها. فشاع في الجزيرة العربية خبرها، وروى مؤرخو تلك الفترة أنها كانت لا تمر بقبيل يريدون الارتداد إلا تخوفوا وسكنوا: وقالوا فيما بينهم: لو لم يكن المسلمون على قوة لما خرج من عندهم هؤلاء.
فإذا كان بقاء أسامة بالمدينة جائزا لدفع خطر، فإرساله كذلك جائز لدفع خطر مثله، وفازت الدولة بين هذا وذاك بدرس الطاعة، وهو يومئذ ألزم الدروس. •••
ثم تكرر هذا الدرس في أوسع نطاق؛ لأنه نطاق الدولة الإسلامية كلها في ذلك الحين، وجاءت حروب الردة التي هي مفخرة أبي بكر الكبرى غير مدافع، أو هي مفخرته الخاصة التي انفرد بها في تاريخ الدعوة الإسلامية بغير شريك. فكان «هو نفسه» كما يقول الغربيون في تعبيراتهم حين يذكرون الأعمال التي تدل على صاحبها بجميع خصائصه ولباب شعوره وتفكيره، وتبرزه على حقيقته التي لا مماراة فيها، خلافا لأعمال أخرى قد تكون فيها هذه «الحقيقة» موضع التباس أو اختلاف.
ففي حروب الردة كان أبو بكر رضي الله عنه هو أبا بكر علي سوائه وجلائه، ولم يكن موقفه غريبا كما يسبق إلي الذهن للوهلة الأولي حيثما يخطر للذهن أنه الرجل الوديع الرفيق، وذلك الموقف أولى المواقف بالصلابة الصارمة والبأس الشديد.
غضب الصديق رضي الله عنه في حروب الردة غضبته التي لا بد أن يغضبها، وإلا فما هو بغاضب.
أثارته ردة المرتدين؛ لأنها مسته في كل ما يثيره، وأصابته في كل ما يعزه ويغار عليه.
فهناك الصديق المحب لصديقه، والمعجب الغيور على ذكرى بطله، يثيره أن يغدر الغادرون بعهد ذلك الصديق وذكرى ذلك البطل، ولما تمض له في قبره أيام أو أسابيع.
وهنالك المسلم «الصديق» الذي آمن ببشارة النصر ولو كره الكافرون، كما آمن من قبل بانتصار الروم على الفرس بعد بشارة القرآن فخاطر على ذلك النصر بالمال والميثاق، ولم يخامره الشك لحظة أنه الرابح لا محالة في ذلك الخطار. وكذلك غضب في حرب الردة غضبة الواثق من الحق، الواثق من الغلبة، الواثق من العاقبة؛ لأنه سمع البشارة السماوية لينصرن الله الإسلام على الدين كله، فإذا حارب في سبيل الإسلام فهو لا محالة على حق وهو لا محالة منصور.
وهناك الرجل «الدقيق التكوين» يقابل بالاستخفاف في أول خلافته وقد راض نفسه طوال حياته على المروءة والكرامة والوقار، أنفة من الاستخفاف وكراهة للصغر والاستصغار، فإذا بهم يستقبلونه بما أشاح عنه طوال حياته، وإذا بالأمر صريح بالمقال فضلا عن صراحته بلسان الحال: هم يستكثرون عليه كنيته أبا بكر فيكنونه أبا الفصيل؟ وأعوانه يردون عليهم ذلك الاستهزاء متوعدين: لترونه غدا أبا الفحول.
Unknown page