إنما كانت تصير إليه بحجة بني هاشم وهي الحجة التي اتقاها النبي جهده كما قدمنا، وكان بنو هاشم مع هذا لا يتفقون على اختيار واحد من رؤسائهم الثلاثة: العباس وعلي وأخيه عقيل، ولم يكن علي بعد هذا وذاك قد جاوز الثلاثين إلا بسنوات قلائل، وهي عقبة من العقبات التي لا يسهل تذليلها في أمة ترعى حق السن ومكانة الشيوخ إلا بوصية ظاهرة من النبي عليه السلام. ولم تكن هناك وصية من هذا القبيل كما اتفق عليه كل سند وثيق.
أفكانت تصير إذن إلى معاوية بن أبي سفيان؟
ما نحسب أن معاوية نفسه قام بخلده أن يرشح نفسه لخلافة النبي في تلك الآونة. ولو توافرت له السن وتوافرت له الذرائع التي تقربه من ذلك الأمل لآثرت قريش بالمبايعة كل بطن من بطونها غير بطن بني أمية؛ لأن الخلافة في بني أمية معناها دولة بني أمية، لاستطاعتهم بالخلافة وقوة العصبية أن يفرضوا دولتهم على سائر البطون وسائر القبائل ... أما الخلافة في بني تيم، رهط أبي بكر، فهي خلافة قريش كلها ومعهم جميع المسلمين، لتعذر قيام الدولة ببطن واحد من البطون الصغيرة واحتياج الحاكم إلى اتفاق هذه البطون من حوله. ويقال مثل ذلك في بني عدي رهط عمر، وفي سائر البطون القرشية ما عدا هاشما وأمية.
فإذا كان انتخاب أبي بكر للخلافة هو رأي قريش الذي محيد عنه، وهو نية النبي التي ظهرت من أعماله وإشاراته، فما الحاجة إلى التدبير بين السيدة عائشة وأبيها، أو بين الرجال الثلاثة أبي بكر وعمر وأبي عبيدة؟ ومن أين يأتي تخيل التدبير ولا موجب له من الفروض ولا من الإسناد؟
ربما كان الدليل الذي هو أقطع من كل دليل على نفي التدبير المزعوم أن تقدر أن التدبير لم يحصل قط فماذا كان يحصل بعد امتناعه، أكان يقع في مسألة الخلافة شيء غير الذي وقع؟ وما هو؟ وما حيلة التدبير في منعه؟
فإن كان الجواب أن التدبير وترك التدبير يستويان. وأن الحاجة إليه لا تخطر على بال عاقل، ففي ذلك غنى عن الأدلة الأخرى التي تنقضه وتلقي به في مراجم الظنون والأوهام.
نظر النبي إلى ذلك كله بالبصيرة الثاقبة التي تكشف له ما لا ينكشف لغيره، فسكت بالقدر اللازم، وأشار بالقدر اللازم، وعلم أنه قد أشار بما فيه الكفاية، وأن ما زاد على ذلك فهو زيادة على الكفاية.
وما نشك لحظة في أنه عليه السلام قد أحاط بكل ما يحاط به هذه المسالة خلال مرضه وقبل مرضه، وقد اطمأن إلى كل ما يوجب الاطمئنان في تقديره، وأنه لو رأى حاجة إلى المزيد من التصريح بالقول القاطع لصرح وقطع بالقول، لأننا لا نستطيع أن نفهم أنه عليه السلام يترك الإسلام والمسلمين عرضة للفشل والفتنة، ثم لا يدفع ذلك بما في وسعه. فاكتفاؤه بما صنع هو الدليل على علمه بما سيحدث واستغنائه عن المزيد من التدبير.
وقد نظر عليه السلام - ولا ريب - إلى كل ما يستحق النظر في مسألة الخلافة وهو يرشح لها أبا بكر ذلك الترشيح الأبوي الذي يؤنس بالرأي ولا يقحمه على القلوب.
نظر إلى حق أبي بكر كما نظر إلى مصلحة المسلمين.
Unknown page