وكان من أضحك الناس وأطيبهم نفسا، صافي القلب إذا كره شيئا رؤي ذلك في وجهه، وإذا رضي عرف من حوله رضاه.
وقد اتسع عطفه حتى بسطه للأحياء كافة ولم يقصره على ذوي الرحم من الناس ولا على الناس من غير ذوي الرحم، فكان يصغي الإناء للهرة لتشرب، وكان يواسي في موت طائر يلهو به أخو خادمه، وأوصى المسلمين: «إذا ركبتم هذه الدواب فأعطوها حظها من المنازل ولا تكونوا عليها شياطين»، وكرر الوصاة بها أن «اتقوا الله في البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة.»
وقال: «إن الله غفر لامرأة مومسة مرت بكلب على رأس ركي يلهث قد كاد يقتله العطش، فنزعت خفها فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء فغفر لها بذلك ...»
وقال في هذا المعنى: «دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.»
لا بل شمل عطفه الأحياء والجماد كأنه من الأحياء، فكانت له قصعة يقال لها الغراء، وكان له سيف محلى يسمى ذا الفقار، وكانت له درع موشحة بنحاس تسمى ذات الفضول، وكان له سرج يسمى الداج، وبساط يسمى الكز، وركوة تسمى الصادر، ومرآة تسمى المدلة، ومقراض يسمى الجامع، وقضيب يسمى الممشوق ...
وفي تسمية تلك الأشياء بالأسماء معنى الألفة التي تجعلها أشبه بالأحياء المعروفين ممن لهم السمات والعناوين، كأن لها «شخصية» مقربة تميزها بين مثيلاتها، كما يتميز الأحباب بالوجوه والملامح وبالكنى والألقاب.
ذو ذوق سليم
هذه العاطفة الإنسانية التي رحبت حتى شملت كل ما أحاطت به وأحاط بها، لم تكن هي كل أداة الصداقة في تلك النفس العلوية، بل كان معها ذوق سليم يضارعها رفعة ونبلا ويتمثل - فيما يرجع إلى علاقات النبي بالناس - في رعاية شعورهم أتم رعاية وأدلها على الكرم والجود. «كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام معه قام معه، فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه. وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منه حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده منه ...» «وكان إذا ودع رجلا أخذ بيده فلا يدعها حتى يكون الرجل هو الذي يدع يده ...» «وكان أرحم الناس بالصبيان والعيال ... وإذا قدم من سفر تلقى بصبيان أهل بيته.» «وكان أشد حياء من العذراء في خدرها، وأصبر الناس على أقذار الناس» ... يحفظ مغيبهم كما يحفظ محضرهم ويقول لصحبه: «من اطلع في كتاب أخيه بغير أمره فكأنما اطلع في النار.»
ومع العاطفة الإنسانية والذوق السليم والأدب الكريم سمت جميل ونظافة بالغة وحرص على أن يراه الناس في أجمل مرآه.
ومع هذا كله أمانة يثق بها العدو فما بال الصديق؟ ... وحسبك من ثقة الناس به ما أودعوه من أمانات وهم يناصبونه العداء، فلم يخرج للهجرة وهو مهدد في سربه حتى رد الأمانات إلى أصحابها، وقد يكون في ردها ما ينبههم إلى خروجه ويأخذ عليه سبيل النجاة، وهذا إلى اشتهاره بالأمانة في صباه حتى سمي بالأمين قبل أن يتجرد لدعوة تنبغي لداعيها أمثال هذه الصفات.
Unknown page