عاش في العصور الماضية كثير من العظماء الذين تواترت الأنباء بأوصافهم السماعية وأوصافهم المرسومة في الصور والتماثيل. غير أننا لا نعرف أحدا من هؤلاء العظماء تمت صورته السماعية أو المنقولة كما تمت صورة محمد عليه السلام من رواية أصحابه ومعاصريه، فنحن نعرفه بالوصف خيرا من معرفتنا لبعض المخلدين بصورهم وتماثيلهم التي نقلت عنهم نقل الحكاية والمطابقة، لأن هذه الصور والتماثيل قد تحكي للناظرين ملامح أصحابها ومعارفهم الظاهرة، وقد تحكي للمتفرسين شيئا من طبائعهم التي تنم عليها سيماهم، إلا أنها لا تحفظهم لنا كما حفظت الروايات المتواترة أوصاف النبي في كل حالة من حالاته وكل لمحة من لمحاته؛ في سيماه وفي هندامه، وفي شرابه وطعامه، وصلاته وصيامه، وحله ومقامه، وسكوته وكلامه، لأن الذين وصفوه وأحبوه وأحبوا أن يقتدوا به فتحرجوا في وصفه كما يتحرج المرء في الاقتداء بصفات النجاة والأخذ بأسباب السلامة، فكانت أمانة الوصف هنا مزيجا من العطف والتدين، وضربا من اتباع السنن وقضاء الفروض، لم يختلف الوصف مرة إلا كما تختلف نظرة الناظر إلى وجه واحد بين ساعة وأخرى، فيقول غير ما قال آنفا ثم لا يبدو التناقض ولا قصد التحريف بين القولين.
وخلاصة المحفوظ من الروايات المتواترة أن النبي عليه السلام كان مثلا نادرا لجمال الرجولة العربية، كان كشأنه في جميع شمائله مستوفيا للصفة من جميع نواحيها، فرب رجل وسيم غير محبوب، ورب رجل وسيم محبوب غير مهيب، ورب رجل وسيم يحبه الناس ويهابونه، وهو لا يحب الناس ولا يعطف عليهم ولا يبادلهم الولاء والوفاء. أما محمد عليه السلام فقد استوفى شمائل الوسامة والمحبة والعطف على الناس، فكان على ما يختاره واصفوه ومحبوه، وكان نعم المسمى بالمختار.
إذا نظر إليه الناظر رأى رجلا أزهر اللون، عظيم الهامة، مفاض الجبين، سبط الشعر، أزج الحاجبين بينهما عرق يدره الغضب، أدعج العينين في كحل، أقنى الأنف يحسبه من لم يتأمله أشم العرنين، أسيل الخد، ضليع الفم غزير اللحية، جميل الجيد، عريض الصدر، واسع ما بين المنكبين، ضخم الكراديس، طويل الزندين، رحب الراحة، شثن الكفين والقدمين، لا بالمشذب ولا بالقصير، مربوعا أو أطول من المربوع، معتدل الخلق متماسكا، لا بالبدين ولا بالنحيل ...
وإذا أقبل يتحرك نظر إليه الناظر فرأى رجلا يصفه الأقدمون بأنه «حي القلب» ويصفه المحدثون «بالحركة والحيوية» ...
يمشي فكأنما يتحدر من جبل وينحط من صبب، ويرفع قدمه فيرفعها تقلعا كأنما ينشط بجملة جسمه، ويلتفت فيلتفت كله، ويشير فيشير بكفه كلها، ويتحدث فيقارب يده اليمنى من اليسرى ويضرب بإبهام اليمنى راحة اليسرى، ويفتح الكلام بأشداقه ويختمه بأشداقه، وربما حرك رأسه وعض شفته في أثناء كلامه، وهو على هذه الحركة الحية جم الحياء؛ أشد حياء من العذراء، نضاح المحيا إذا كره شيئا عرف ذلك في وجهه، وإذا رضي تطلقت أساريره وتبين رضاه.
واقترن النشاط والحياء بالقوة والمضاء في هذه البنية الجميلة ... فكان عليه السلام يصرع الرجل القوي، ويركب الفرس عاريا فيروضه على السير، ويداعب من يحب بالمسابقة في العدو، قالت عائشة رضي الله عنها: «خرجت مع النبي
صلى الله عليه وسلم
في بعض أسفاره وأنا جارية لم أحمل اللحم، فقال
صلى الله عليه وسلم : تقدموا ... فتقدموا ... ثم قال: تعالي حتى أسابقك. فسابقته فسبقته، فسكت.
حتى إذا حملت اللحم وكنا في سفرة أخرى قال
Unknown page