54

ذلك جائز غير ضعيف الجواز، ولكننا على هذا نرجح أن الخليفة هو صاحب الخطة من ألفها إلى يائها، وأن نصيب خالد فيها هو نصيب الإقرار والموافقة، ويميل بنا إلى هذا الترجيح أن نصائح الخليفة في بدء البعثة قد شملت الصغائر والكبائر، وتناولت تفصيل الحركة كما تناولت تفصيل البيان الصحيح عن مواقف المرتدين في كل قبيلة وكل ميدان، وأن الخطة قامت على التورية والسبق بالهجوم، وكلاهما مما تعلمه الخليفة الأول بعد طول الصحبة من النبي عليه السلام، إذ كان مأثورا عنه أنه كان إذا قصد وجهة ورى بغيرها، وأنه كان لا ينتظر الهجوم بل يسبق الهاجمين إليه، وقد جرى الخليفة على ذلك في دفاعه عن المدينة قبل مسير البعوث وعقد الألوية للقواد.

كذلك تواترت بعض الأقوال بمسير خالد إلى بني تميم - بعد معركة البزاخة - قبل أن يأتيه أمر الخليفة بالهجوم. قيل: إن الأنصار أنكروا عليه المسير إلى بني تميم وقالوا له: «ما هذا بعهد الخليفة إلينا، إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا»، فقال لهم خالد: «إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلى أن أمضى، وأنا الأمير وإلي تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني كتاب ولا أمر، ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها.»

بل قيل أكثر من ذلك، إنه أغار على اليمامة قبل أن يأتيه الأمر من الخليفة بالإغارة عليها. وهي أهول حروب الردة بل لعلها أهول من معظم حروب الفرس والروم.

فزعم قوم أنه قال لصحبه بالبطاح: والله لا أنتهي حتى أناطح مسيلمة، فأبى الأنصار وقالوا: هذا رأي لم يأمرك به أبو بكر فارجع إلى المدينة؛ فأصر على رأيه وقال: لا والله، حتى أناطح مسيلمة، فرجعت الأنصار فسارت ليلة ثم قالوا: والله لئن نصر أصحابنا لقد ندمنا، ولئن هزموا لقد خذلناهم، فرجعوا إليه ومضى بهم إلى اليمامة ...

والذي لا نزاع فيه أن الخليفة لم يبعث أحدا غير خالد إلى بني تميم، ولو بعث غيره لصح أن يقال إنه سار إليهم غير مأمور، ولكنه قال عند مسير جيشه من ذي القصة: «إذا فرغ سار إلى مالك بن نويرة بالبطاح إن أقام له.»

أما اليمامة، فقد بعث إليها الخليفة عكرمة بن أبي جهل ثم رأى حاجته إلى المدد فوجه في أثره شرحبيل بن حسنة، وأمرهما أن يتلاقيا ولا ينفردا بالهجمة على اليمامة، ثم بدا لعكرمة أن يستأثر بالنصر وحده، فهجم على مسيلمة قبل أن يوافيه المدد فنكب نكبة شديدة، وتلقى الخليفة نبأ هذه النكبة، فكتب إلى شرحبيل يأمره بالتوقف حتى يأتيه أمره، ولم يقل أحد: إن الخليفة وجه قائدا غير خالد لنجدة شرحبيل، ولا كان معقولا أن يكتفي بشرحبيل بعد هزيمة عكرمة وقد كان كلاهما عنده في حاجة إلى التعزيز والإمداد.

وقد تقدم أن الخليفة قد بصر خالدا بشأن اليمامة قبل خروجه إلى البزاخة ... وليس ثمة من داع إلى الشك في نسبة ذلك المقال إليه، ولا إلى الشك بعد هذا جميعه في تولية خالد قيادة الجيش الذي سار إلى اليمامة ...

ومن المتواتر جدا أن خالدا لقي الخليفة بعد مسيره إلى بني تميم وقبل مسيره إلى بني حنيفة؛ لأنه استدعى لسؤاله عن مقتل مالك بن نويرة وزواجه من امرأته ليلى، فهو قد توجه إلى اليمامة مأذونا مأمورا بعد وقعة البزاخة وبعد وقعة بني تميم وعدا هذا كله، يكاد يستحيل على العقل أن يقبل أن خالدا قد تولى حربا كحرب اليمامة، اشترك فيها أعظم الصحابة واستهدف المقاتلون فيها لأكبر الأهوال دون أن يندب لذلك بأمر صريح. •••

وغاية ما نفهمه الآن من ورود ذكر اليمامة عند عقد الألوية في ذي القصة أن الخليفة عرف خطرها؛ فأراد أن يجمع لها أكبر قوة من جيوشه المختلفة ... وأراد في الوقت نفسه أن يشغل بني حنيفة بأنفسهم، فوجه إليهم عكرمة أولا ثم وجه شرحبيل بعده ليتلاقيا معا، ويكون خالد قد فرغ في خلال ذلك من أمر بني أسد فيدرك سابقيه معززا لهم إن تعذر عليهم أن يقهروا بني حنيفة قبل قدومه، وهي خطة تلائم ما عرف عن خطط الصديق من جرأة وحيطة وسرعة، ولا يمنع هذا أن الخليفة أمر خالدا أن يرجع إليه بعد كل مرحلة من مراحل هذه البعثة لعله قد استجد شيء في غيابه.

وفحوى الأقوال الكثيرة التي تتفق بالبداهة على هذا النسق أن خالدا قد تولى التنفيذ في ترتيب أعماله وتولاه أيضا في أوائل خططه، ولكنه قد وكل إلى نفسه في الأمور التي يعلمها الشاهد ولا يعلمها الغائب ... ومنها موعد المسير وطريقة الهجوم واللقاء، فقام بما وكل إليه جميعا على أكمل الوجوه وأقمنها بموافقة الخليفة، إلا في موضعين لكل منهما ارتباط بمسألة زواج: أحدهما في البطاح، والآخر في اليمامة ... فقد تعرض فيهما لمؤاخذة الخليفة ومؤاخذة كبار الصحابة، ولم يرض فيهما عرف الجاهلية أو عرف الإسلام.

Unknown page