وهذه كلمة من كلمات القائد العربي تنبئ عن كثير؛ تنبئ عن ملكة القيادة فيه، وتنبئ عن ملكة السيادة في الأمة التي نشأ منها، واستطاعت بها أن تسوس الأمم في الحرب والسلم سياسة للنجاح وللبقاء ...
فالحق أن شروط القيادة على وفرتها وعظم التبعة فيها جميعا، ليس يوجد بينها ما هو ألزم للقائد من القدرة على سبر قوته وسبر قوة خصمه. وكل ما عدا ذلك فإنما هو ترتيب لما يصنعه بقوته، وما يتوقع من القوة التي ينازلها أن تصنعه، أو هو تنظيم للأهبة والحيطة بين الفريقين في المكان الذي يتلاقيان فيه ...
وقد كانت لهزيمة الدول أمام العرب أسباب كثيرة: منها ضعف العقيدة واختلال النظام ونقص القيادة، وانحلال الترف وتفرق الآراء، ولكن البلاء الأكبر إنما حاق بتلك الدول من آفة الغرور الباطل والاستخفاف بالخصم المقاتل. فانتصر العرب؛ لأنهم ظنوهم لا ينتصرون ولا يعتزمون الانتصار، وكان الاستخفاف والإهمال شرا على تلك الدول المتصلفة من الاستهوال والفزع؛ بل كان الاستخفاف والإهمال سببا لانقلابهم آخر الأمر إلى استهوال يخذل المفاصل وفزع يفت في الأعضاد، فاجتمعت عليهم البليتان من سوء التقدير، ولم تنفعهم قلة المبالاة بالعدو ولا فرط المبالاة به بعد الأوان ...
كانت دولة الفرس لا تنظر إلى البادية العربية إلا نظرة السيد المبجل إلى الغوغاء المهازيل، الذين يحتاجون إما إلى العطاء وإما إلى التأديب، وبلغ من طغيان كسرى حين جاءته الدعوة المحمدية أن بعث إلى النبي العربي بشرذمة من الجند تأتيه به في الأصفاد! ... وبلغ من طغيان جنده عامة، وخاصة أنهم كانوا يأنفون أن يقرنهم أحد بالعرب في معرض من المعارض أو غرض من الأغراض ولو للحيلة والمكيدة. فاتفق في بعض وقعات العراق أن زعيما عربيا من جيرة الفرس أقبل على القائد الفارسي مهران بن بهرام؛ ليمده بأبناء قبيلته ويعينه على خالد بن الوليد وجنده. فقال له: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالدا» فجاراه القائد الفارسي مجاملة وخدعة؛ ليستخلص منه أقصى العون والنجدة، وقال له: «صدقت لعمري! لأنتم أعلم بقتال العرب وأنتم مثلنا في قتال العجم ...» فغضب أتباعه لمجاملته هؤلاء القوم الذين يعينونهم ويقاتلون في صفوفهم، وسألوه «كيف تقول ما قلت لهذا الكلب؟» فلم يهدءوا عنه حتى اعتذر لهم بأنه يخدع القوم ويغرر بهم، وقال لهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم ... فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوكم - أي المسلمون - حتى يهنوا، فنقاتلهم ونحن أقوياء وهم مضعفون ...»
وسخفوا في طلائع وقعة «أليس» فلم يحفلوا بجيش خالد الزاحف إليهم، وتنادوا إلى طعامهم الذي هيئوه، ولم يكلفوا أنفسهم قبل ذلك مشقة استطلاع الطريق ... ليأمنوا البغتة قبل تهيئة الطعام.
أما الروم، فكان لهم غرور كهذا الغرور في مواجهة البادية العربية، وكان قصارى ما حذروه في أول الأمر أن يغير العرب على تخومهم لينهبوا ويسلبوا، ثم يفروا بسلبهم إلى الصحراء ... فإن أوغلوا في بلاد الدولة الرومانية، فهم مأخوذون بالهبات والوعود أو مأخوذون بالكثرة المستعدة، لا يقوم لها جند قليل يوشك أن يتجرد من السلاح بالقياس إليهم، فلما جد الجد، وعرفت الدولة الرومانية من تقاتل من أولئك الجند العزل على زعمها، إذا هي تنقلب من الغفلة الشديدة إلى الفزع الشديد ...
ويبدو لنا أن المؤرخين المحدثين لم يبرءوا كل البرء من هذا الخطأ القديم.
فلا يزال الأكثرون منهم يستعظمون على العرب أن يغلبوا الفرس والروم، ويحسبون هذه الغلبة شيئا قد حصل وكان ينبغي ألا يحصل، لولا أنها فلتة لا يقاس عليها ومصادفة لا تقبل التكرار ...
وبعضهم يلتمس العلة، فيقول: «إنما هي وهن الدولتين ومصابهما بالخور والانحلال»، أو يلتمس العلة، فيقول: «إنها عقيدة المسلمين القوية وافتقار الفرس والروم إلى مثل هذه العقيدة.»
وكل أولئك تعليل ناقص من كل نواحيه ...
Unknown page