Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
وإذا صح أن يكون ضرام الغيظ عذرا للمتسلط المستبد المغلوب على استبداده، فهذا هو العذر الذي قد يفسر ذلك الإسفاف الذي هبط بالأمير إلى الدرك الأسفل في حقده على ذلك الفلاح الجريء واستباحة ما لا يستبيحه الكريم، ولا اللئيم العاقل، في الكيد له والسعي إلى إجلائه عن مقامه؛ مقامه في منصبه، ومقامه في أعين الناس بين مشارق الأرض ومغاربها، ولم يكن ليخفى عليه أنه كان أعظم مقام في بلاد الإسلام.
ولولا الحقد الذي يسلب المرء رشاده، لما سمح أمير في مركزه أن يخطب علانية ليجعل العمل على إنهاض المسلمين بالتعليم الصالح زيغا في العقيدة ومروقا من الدين، وليسند مشيخة الجامعة الإسلامية الكبرى إلى رجل يقول إن تعليم هذا العلم يمحو الدين ويزري بعلماء المسلمين.
ولولا هذا الحقد لما استباح لنفسه أن يحبط كل عمل لذلك المصلح الكبير، حتى العمل الذي جهد طول حياته لإبراء المسلمين من داء الخمول، وإنقاذهم من الأوهام التي تعوقهم عن اللحاق بجيرانهم في ركب الحضارة لسوء فهم الدين، واختلاق الموانع التي يزيفها الجامدون باسم الشرع المظلوم.
فقد كاد المسلمون الآسيويون أن ينعزلوا عن سكان أفريقيا الجنوبية، ويفقدوا وظائفهم وأشغالهم فيها لشيوع تلك الأوهام بينهم وكثرة المرجفين بالتحريم والتحليل بين أدعياء الدين فيهم، وقد تعاقبت على تلك البلاد هجرة المسلمين من الهنود والعرب واختلاطهم بأبنائها الأصلاء، فدخل في الإسلام طوعا ألوف من الأفريقيين السود؛ لما أنسوه من سماحة هذا الدين وسلامته من شوائب المحظورات التي تكثر في عباداتهم كما تكثر في عبادات بعض الأوروبيين والآسيويين، ثم حالت هذه الحال زمنا بعد ازدحام بالأوروبيين وخضوع أكثرها لحكوماتهم أو جماعات التبشير منهم، فتحرج المسلمون أنفسهم من مجاراة أولئك الغرباء الطارئين عليهم، وقعدت بهم وساوسهم الدينية عن كفاح الحياة معهم، تحرجا من مجاراة القوم في عاداتهم وأزيائهم، وخسر الإسلام زمنا ما كان يكسبه من سهولته وقلة قيوده في أحوال المعيشة قبل وفود الأوروبيين، فأعرض عنه أبناء البلاد الأصلاء، وهانت مخالفته على طلاب الرزق الذين تضطرهم مطالب العيش إلى مشاركة الأوروبيين وغير المسلمين الآسيويين في مرافق أعمالهم. من ذا الذي يقوى على زحام العيش في بيئة يخشى فيها أن يلبس القبعة، وأن يتناول الطعام من العلب المحفوظة، وأن يؤدي الصلاة في مسجد له إمام على غير مذهبه بين المذاهب الأربعة؟
هذه وأمثالها كانت عوائق المعيشة، بل عوائق التدين بالإسلام، في معترك الحياة بين المسلمين وجيرانهم من سكان أفريقيا الجنوبية والشرقية ... وفي هذه وأمثالها كانت أسئلة الاستفتاء تتوارد على مفتي الديار المصرية، فيجيب عنها وهو يعلم خطر الإجابة التي يجيب بها من يجهل ظروفها وعواقبها، وكانت إحدى هذه الفتاوى تلك الفتوى التي شغلت صحافة مصر، وصحافة العالم الإسلامي، عدة أشهر باسم فتوى الترنسفال، ونتيجتها في بضعة أسطر أن الشيخ المفتي أباح للمسلم أن يلبس القبعة، وأن يأكل من طعام أهل الكتاب كما ورد في القرآن الكريم، وأن يؤدي الصلاة وراء كل إمام يدين بالإسلام.
هذه هي الفتوى وهذه هي ظروفها وعواقبها التي نظر إليها مفتي مصر في إجابته عنها.
ولم يبح المفتي عادة واحدة كان يحرمها الخديو وحملة الأقلام الذين سخرهم في الحملة الشعواء على فتوى الترنسفال، فإنهم كانوا جميعا يلبسون القبعات، ويأكلون في المطاعم الأوروبية وفي بيوت الأجانب، ويغشون الولائم «الرسمية» وغير الرسمية داخل القطر المصري وخارجه، ومن شهد منهم صلوات الجمع فإنما كان يشهدها ومعه مئات من المسلمين من أتباع المذاهب الأربعة ... ولكن الفتوى عمل من أعمال المفتي يجب إحباطه والتشهير به وتنفير الناس منه مهما يكن في ذلك من الضرر بالإسلام والمسلمين، وقد يكون في ذلك إعراض الوطنيين السود عن الإسلام بعد إقبالهم عليه، وقد يكون فيه تعويق لجهاد المسلمين المهاجرين عن كفاح الحياة في أفريقيا الجنوبية مع سائر المهاجرين الذين تعفيهم عقائدهم من تلك القيود، وقد يكون فيه استخفاف المسلم بتكاليف دينه إذا ثقلت عليه في لبسه ومأكله وعبادته مع أبناء ملته ووطنه، وقد يكون فيه المساس بسمعة الدين بين أهل الحضارة، وتمثيله لهم في صورة العقبة المتحجرة التي تأبى على المسلم أن يجتمع على معيشة واحدة مع أبناء الحضارة الأوروبية ... وقد يكون فيه كل ذلك، بل كان فيه كل ذلك لو أفلح كيد المضللين كما أرادوه، لكن ماذا يعنيهم ذلك كله إذا اشتفت صدورهم من الرجل المغضوب عليه، وأفسدوا عليه عمله في خدمة الإسلام والمسلمين أو في خدمة ما يشاء من مقصد عام، ما داموا لا يجدون له مقاصد خاصة يفسدونها عليه؟
إلى هذا الحضيض أسفت جماعة الحملة على فتوى الترنسفال، ولا نظن أن نقل الكثير أو القليل من كلامهم الذي ملئوا به الصحف بضعة أشهر يزيد القارئ علما بمبلغ ذلك الإسفاف، فإن الاتجار باسم الدين هو عنوان عملهم الوضيع، وإنه لعنوان يغني عن أسوأ ما كتبوه تحته من كذب فاضح وهراء مرذول.
وأخس من هذا الكذب وهذا الهراء أن يسبوا عرض الرجل بالتهم التي يعلمون أنها باطل مختلق؛ لأنهم الذين اختلقوه وروجوه، فقد كان قراء الصحف المصورة لذلك العهد يجهلون الكثير عن صناعة التصوير الشمسي التي يعرفها اليوم عامة القراء، ويحسنها بعض هواة التصوير كما يحسنها الخبراء المختصون بتدبير المناظر للصحافة المصورة ... ومن أسرار تلك الصناعة التي كانت مجهولة يومئذ عند عامة القراء أن يلفق المصور رسما واحدا من ثلاثة رسوم أو أربعة متفرقات، فهذا التلفيق هو الذي توسلوا به إلى خداع العامة بصورة للمفتي في حلبة الرقص يخاصر فتاة إفرنجية وكلبها يعبث بأطراف جبته، ولو استطاعوا المبالغة في رص المحظورات جميعا في منظر واحد لتمموا هذا المنظر بكأس من الخمر وصحفة من لحم الخنزير، ولكنهم عجزوا عن جمعها، فاكتفوا من المحظورات بمحظور المفتي مع امرأة يغازلها ويراقصها ويصحبها كلبها في حلبة الرقص على غير المألوف في مراقص القوم، وخيل إليهم أنها ريبة لا تدفع، ودليل من أدلة الإثبات لا يدحض، ولكن الصورة أحيلت على التحقيق القضائي، فلم تثبت على امتحان الخبراء ولا على المعالجة بأدوات التحليل والتكبير، وأدين صاحب الصحيفة التي قبلت أن تنشرها لهم بين صحف الخلاعة التي سخروها لحملتهم، واسمها «حمارة منيتي» يغني عن المزيد في الدلالة عليها ... وإلى قصة هذه الصورة يشير اللقاني رحمه الله في بعض أبياته إذ يقول:
مكيدة لفقوها
Unknown page