Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
وتقدم إلى امتحان شهادة العالمية، وهو بهذه السمعة في دوائر الجامدين ودوائر المجددين، فدخل أعضاء اللجنة وهم متعاهدون على إسقاطه كيفما كانت إجابته على أسئلتهم التي قدروا أن تكون معجزة لمثله، فلم يستطيعوا أن يحرموه بعد العنت والمكابرة، بل لم يستطيعوا أن يكتفوا بمنحه الدرجة الصغرى وهي شهادة اللجنة من الدرجة الثالثة، حتى أنقذه منهم بعض الإنقاذ رئيس اللجنة ورئيس الجامع في ذلك الحين الشيخ «المهدي العباسي»، أحد كبار العلماء المناصرين لحركة التجديد وإن لم يكن من المحبين لجمال الدين، وأقسم الرجل أنه لو عرف درجة فوق الأولى لما استكثرها عليه، وكادت اللجنة أن تنفض على غير اتفاق، لولا خشية العاقبة من مجابهة شيخ الجامع بالتحدي والإجحاف، فاقترح بعض الأعضاء التوسط بين الدرجتين، واتفقوا أخيرا على منحه الدرجة الثانية، ثم رفعت هذه الدرجة إلى الأولى بعد سنوات، وكانت سنه في نحو الثامنة والعشرين حين دخوله الامتحان (1887).
وبعد التدريس في الأزهر نحو سنتين عين أستاذا بدار العلوم (1879)، وفصل منها بعد أشهر معدودات لغير سبب مذكور في قرار فصله، ولكنه كان مفهوما بين المطلعين على سياسة القصر قبيل الثورة العرابية، فإنه كان قد عرف بالدعوة في دروسه إلى المبادئ الخطرة التي أشارت إليها الحكومة في قرار نفيها للسيد جمال الدين، وكان أكثر من ذلك تلميذ جمال الدين الأول، فكان خطر جمال الدين أهون عليهم من خطر هذا التلميذ، وهم يكلون إليه تعليم المعلمين!
أي مكان أسلم - أسلم للحكومة الخديوية - تضع فيه المدرس المعزول من وظيفة التدريس للمعلمين؟
إن السؤال عن المكان المأمون الذي يشغله هذا الفتى الريفي قد أصبح في تلك الآونة شغلا للدولة تعنى به، مع عنايتها بكل مكان تتوقع منه الخطر على وجودها، ولم يمض على هذا الفتى الريفي في الثلاثين من عمره سنتان، أو سنوات ثلاث، في الحياة العامة حتى أصبح في رأي الدولة واحدا من آحاد معدودين يحسب لهم حسابهم عند كل حركة من حركاتهم، بل كل نية تحسها الدولة من نياتهم!
نعم، إنه في حالته وبيئته و«مؤهلاته» التقليدية واحد من عدة آلاف لا يعرف لهم اسم ولا يحسب لهم حساب، ولكنه في نفسه، أو في هموم نفسه وآمالها، واحد لا ثاني له من غراره، وإن يكن في توقع الخطر منه واحدا من بضعة آحاد معدودين، خارج الوظائف والدواوين.
ولقد عزل من وظيفة التدريس بدار العلوم وهو عالم من علماء الأزهر، فإذا كان تعليمه هو الخطر المحذور، فهو عائد إلى التعليم في مدرسة أكبر باتساعها وأخطر بقدوتها من دار العلوم، وهي الجامعة الأزهرية ما لم تشغله عنها وظيفة يرضاها، وقد أخذ في ذلك الحين ينشر مقالاته في الصحف، ويجمع حوله طائفة من قراء أدبه والمعجبين بآرائه، فإذا خلي بينه وبين الصحافة فمن ذا يعلم العاقبة المنتظرة بعد قليل؟ وماذا يمنع أن تتيح له الظروف لسانا من ألسنة الصحافة السيارة، يستقل به ويملي منه دروسه التي حيل دون إملائها بين الجدران في دار العلوم؟
إن التحرير عمل يناسبه، فليكن إذن محررا في صحيفة الحكومة بين سمعها وبصرها، وليؤخذ عليه سبيل التدريس في الأزهر والكتابة في الصحافة السيارة، بعمل يعجبه في ظاهره ويحد من نشاطه المحذور في باطنه، وهو تحرير الوقائع المصرية، تحرير الصحيفة التي يدل اسمها عليها، وهو نشر الوقائع الرسمية.
لو قال قائل: إن هذا الإنسان خلقة مجبولة للتعليم، وإن رمق الحياة ورمق التعليم فيها شيء واحد. لما وصل إلى حدود الإغراق الذي تبيحه المبالغة للمبالغ في مثل هذا المقام.
فإنه عزل من مدرسة التعليم للمعلمين ليلحق بمكان يقال فيه بحق إنه آخر مكان ينتظر منه إلقاء الدروس، وإنه المكان الذي لا يقع في أن الدروس تلقى منه على الأمة وعلى الحكومة، وهما على أبواب ثورة قلما تجمعهما على وفاق.
ولكن صحيفة الوقائع الرسمية تحولت على يد هذا المحرر «الرسمي» إلى منبر لنشر الدعوة وإعلان الشكوى، وإسماع الحكومة ما تريد أن تسمعه وما لا تريد أن يسمع بحال، وقال الشيخ محمد عبده على صفحاتها كل ما كان قائله لو تكلم في حلقات الأزهر أو على منصة التدريس بدار العلوم.
Unknown page