Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
وفي منتصف شوال من تلك السنة ذهبت إلى الأزهر، وداومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس، حتى كنت أستغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة ... وفي أواخر كل سنة دراسية، كنت أذهب إلى (محلة نصر) أقيم بها شهرين من منتصف شعبان إلى منتصف شوال، وكنت عند وصولي إلى البلد أجد خال والدي الشيخ درويشا قد سبقني إليه، فكان يستمر معي يدارسني القرآن والعلم إلى يوم سفري، وكل سنة كان يسألني ماذا قرأت، فأذكر له ما درست، فيقول: ما درست المنطق! ما درست الحساب! ما درست شيئا من مبادئ الهندسة! ... وهكذا كنت أقول له: بعض هذه العلوم غير معروف الدراسة في الأزهر. فيقول: طالب العلم لا يعجز عن تحصيله في أي مكان ... فكنت إذا رجعت القاهرة، ألتمس هذه العلوم عند من يعرفها، فتارة كنت أخطئ في الطلب، وأخرى أصيب، إلى أن جاء المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني إلى مصر سنة 1286ه.
لقاء بالسيد جمال الدين
وقد صاحبته من ابتداء شهر المحرم سنة 1287ه، وأخذت أتلقى عنه بعض العلوم الرياضية والحكمية (الفلسفية) والكلامية، وأدعو الناس إلى التلقي عنه كذلك.
وأخذ مشايخ الأزهر والجمهور من طلبته يتقولون عليه وعلينا الأقاويل، ويزعمون أن تلقي تلك العلوم قد يفضي إلى زعزعة العقائد الصحيحة، وقد يهوي بالنفس في ضلالات تحرمها خيري الدنيا والآخرة، فكنت إذا رجعت إلى بلدي عرضت ذلك على الشيخ درويش، فكان يقول لي: «إن الله هو العليم الحكيم، ولا علم يفوق علمه وحكمته، وإن أعدى أعداء العليم هو الجاهل، وأعدى أعداء الحكيم هو السفيه، وما تقرب أحد إلى الله بأفضل من العلم والحكمة، فلا شيء من العلم بممقوت عند الله، ولا شيء من الجهل بمجحود لديه إلا ما يسميه بعض الناس علما، وليس في الحقيقة بعلم، كالسحر والشعوذة ونحوهما إذا قصد من تحصيلهما الإضرار بالناس.»
الفصل السادس
محور حياة
صحبنا الفتى الناشئ في مراحل التعليم إلى نحو الثانية والعشرين من عمره، فلو أننا أردنا أن نلتمس لحياته في هذا الدور محورا تدور عليه يجتمع لنا في كلمة واحدة، لما كانت هذه الكلمة أصدق ولا أوفى من كلمة التعليم.
صحبناه إلى أول لقاء له بأستاذه العظيم جمال الدين الأفغاني، وسنصحبه بعد ذلك ردحا من العمر في الصفحات التالية، ولا نرانا نعرف لحياته المباركة محورا غير ذلك المحور الذي دارت عليه كل أدوار حياته، على تعداد جوانبها واتساع ميادينها.
بل نحسب أننا لو صحبناه في كل صفحة من الصفحات التي عنيت بأخباره وآثاره، لما ابتعدنا من ذلك المحور المكين، وإن ذهبنا إلى غاية الأمد الذي أحاطت به حياته الحافلة بجلائل أعماله، متعلما ومعلما وعاملا على نشر العلم النافع حيث استطاع، وقد استطاع ما لم تستطعه العصبة أولو العزم في جيل واحد، من الثانية والعشرين إلى السادسة والخمسين .
إننا نصاحب الطفل محمد عبده كما نصاحب الفتى محمد عبده، والشيخ محمد عبده، فلا نراه أبدا إلا على مفترق طريقين من طرق العلم، أصلحهما هو الذي يختاره له القدر أو يختاره لنفسه، منذ تعلم الكتابة في بيته إلى أن فارق دنياه وهو يناضل نضاله الدائم في سبيل أصلح الثقافتين وألزم التعليمين.
Unknown page