Cabqari Islah Wa Taclim Imam Muhammad Cabduh
عبقري الإصلاح والتعليم: الإمام محمد عبده
Genres
ولكن هذا الخلط بين علم الهيئة والتنجيم لم يكن وقفا على الفلكيين بالمشرق أو البلاد العربية، بل كان النظر في الكواكب لاستطلاع السعود والنحوس دراسة مقررة في الجامعات الأوروبية، وكان أكبر الفلكيين في عصره - جوهان كبلر - المتوفى قبل منتصف القرن السابع عشر يدرس الفلك والرياضة بجامعة جراز، ويصدر بأمر الجامعة تقويمها السنوي مشتملا على أرصاد العالم كله، منبئا بطوالع البروج التي تشرف على مواليد الأمراء والملوك وتقبض على أعنة الحوادث من سلم وحرب، وخصب وقحط، ورواج وكساد، وكان العالم الكبير يؤمن بأسرار تلك الطوالع والأرصاد، ويعزو مخالفة النبوءات أحيانا إلى خطأ الحساب، أو إلى شوائب النفوس التي تتولى الرصد وتتلقى منه النبوءة، كما قال المؤرخ العربي فيما تقدم. وقد كان إسحاق نيوتن يضبط حركات الأفلاك بقانون الجاذبية وهو يدون مئات الصفحات في مباحث الطوالع والأرصاد وطلاسم السحر والزايرجة السوداء. •••
ونمضي مع الجبرتي في حديثه عن نذير النجوم ببلاء الفرنسيس، فنقول: إن هذا المؤرخ الأمين قد شهد حلول البلاء في القاهرة، ووصف أعمال المقاومة في خارجها وداخلها بين كفاح المحاربين ودعاء المسالمين، فقال: إنه «لم تكن إلا ساعة وانهزم مراد بك ومن معه، ولم يقع قتال صحيح وإنما هي مناوشة من طلائع العسكرين بحيث لم يقتل إلا القليل جدا من الفريقين، واحترقت مركب مراد بك بما فيها من الجبخانة والآلات الحربية، واحترق بها رئيس الطبجية خليل الجردلي، وكان قد قاتل في البحر قتالا عجيبا هو ومن انضم إليه من الغليونجية وبقية العسكر والمشاة الذين في المراكب مع مراكب الفرنسيس، وأقدم إقدام الأسد، فقدر الله أن علقت نار بالقلع، فنزل البعض منها إلى البارود الذي في المركب فاحترقت ومات هو ومن بالمركب من المحاربين، فلما عاين ذلك مراد بك ولى منهزما وترك الأثقال والمدافع وتبعته عساكره، والمشاة نزلت في المراكب وانفصل الفريقان بدون طائل.»
قال: «وقد كانت العلماء عند توجه مراد بك للقتال تجتمع في الأزهر كل يوم لقراءة البخاري وغيره من الدعوات، وكذلك مشايخ فقراء الأحمدية والسعدية والرفاعية وغيرهم من طوائف الفقراء وأرباب الأشاير، كل يوم يذهبون للأزهر فيجلسون للأذكار، وتجتمع أطفال الكتاتيب للدعاء وتلاوة اسمه تعالى لطيف، وكل هذا حصل بسببه النفع العظيم، فهو وإن لم يدفع دخول الفرنسيس مصر لكونه أمرا مقضيا محتما لا يرد بالدعاء، لكن وقع اللطف بسبب هذه الدعوات، واجتماع القلوب بمجالس الذكر والاستغفار، وآثار اللطف التي حصلت مشاهدة ولا تنكر ولله الحمد.»
ثم قال: «ولما أصبح يوم الأحد المذكور، والمقيمون لا يدرون ما يفعل بهم ويتوقعون حلول الفرنسيس ووقوع المكروه، ورجع الكثيرون من الفارين وهم بأسوأ حال من العري والفزع، فتبين أن الفرنج لم يعدوا إلى البر الشرقي، وأن الحريق كان في المراكب المتقدم ذكرها، فاجتمع في الأزهر بعض العلماء والمشايخ وتشاوروا، فاتفق رأيهم على أن يرسلوا مراسلة إلى الفرنج وينظروا ما يكون من جوابهم، ففعلوا ذلك وأرسلوها صحبة شخص مغربي يعرف لغتهم وآخر صحبته، فغابا وعادا وأخبرا أنهما قابلا كبير القوم وأعطياه الرسالة فقرأها عليه ترجمانه، ومضمونها الاستفهام عن قصدهم، فقال على لسان الترجمان: وأين عظماؤكم ومشايخكم؟ لم تأخروا عن الحضور إلينا لنرتب لهم ما يكون فيه الراحة؟ وطمنهم وبش في وجوههم ... ثم قال لهم: لازم المشايخ والشرباجية يأتون إلينا لنرتب منهم ديوانا ننتخبه من سبعة أشخاص عقلاء يدبرون الأمور. ولما رجع الجواب بذلك اطمأن الناس، وركب الشيخ مصطفى الصاوي والشيخ سليمان الفيومي وآخرون إلى الجيزة، فتلقاهم وضحك لهم وقال: أنتم المشايخ الكبار؟ فأعلموه أن المشايخ الكبار خافوا وهربوا، فقال: لأي شيء يخافون؟ اكتبوا لهم بالحضور ونعمل لكم ديوانا لأجل الراحة ...»
ولا بد أن نذكر ونحن بصدد الأزهر والحملة الفرنسية أن دعوات الأذكار كانت في حينها «قوة عملية» من جانب واحد على الأقل، وهو جانب اليقين بنفاذها في عقيدة الرعاة والرعية، لا يشكون في أثرها إذا خلصت النية وصدقت الشكوى، ولا يأمن الحاكم الظالم أن تستجاب من المظلوم في شدة البلاء وانقطاع الرجاء في غير الله. وقد مضى على حملة نابليون نحو مائة وسبعين سنة، ونشبت الحرب بين مصر والحبشة، وتوالت الهزيمة بعد الهزيمة، فاعتصم الخديو إسماعيل يومئذ بتلك القوة - قوة التلاوة في البخاري والتماس الدعوات من العلماء - فلم يخامره الشك في أثرها، ولكنه قال للعلماء بعد اتصال الهزيمة: إما أنكم لا تقرءون البخاري، وإما أنكم لستم بعلماء. فردها إليه عالم جريء وذكره بالحديث النبوي؛ إذ يقول عليه السلام: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليسلطن الله عليكم شراركم، فيدعو خياركم فلا يستجاب لكم ...»
وقد ركب الفرنسيون رءوسهم بمصر، واقتحموا الجامع الأزهر ودنسوا محاريبه وربطوا فيه الخيل والدواب، فلم ينتقض غير قليل حتى خرجوا من مصر مدحورين، بعد أن خيل إليهم وإلى الناس أنهم لن يرحلوا عنها مكرهين، ولم ينس أبناء البلد أن يربطوا بين جلائهم السريع وبين عدوانهم على ذلك الحرم المقدس ودعوات علمائه عليهم بالخذلان والنكال. •••
هذه نبذة موجزة من تاريخ الأزهر خلال فترة من فترات ذلك العهد، الذي كان كما تقدم أحلك ساعات الظلام قبل مطلع النهار، ويكفي تاريخ كل فترة من حياة هذا المعهد الخالد للتعريف بوظيفته التي استقر عليها، وبيان مكانته التي تبوأها من الأمة في أيام خضوعها لسلطان الدخلاء الواغلين عليها؛ فقد تقرر بحكم العرف والتقليد وحكم العقيدة والسمعة أنه صوت الأمة الذي يسمعه الحاكم الدخيل من المحكومين، وأنه ملاذ القوة الروحية في نفوس أبناء الأمة وفي نفوس الحاكمين الذين يدينون بعقيدتها، ومن لم يكن من أهل تلك العقيدة فقد يحسب لها حسابها الذي ينساه إخوانها في الدين مع الجهالة المطبقة أو مع هوى الساعة، وقد حسب له الفرنسيون هذا الحساب ونسيه أناس من أمراء المسلمين، ولكنه لم يضع قط كل الضياع في وقت من الأوقات.
ومن فهم الواقع على جليته أن نذكر أن أهل البلد قد حددوا وظيفة الأزهر ووظائف علمائه تحديدا يعز أحيانا على الدستور المكتوب، فكان منهم من يتولى الصدارة في شئون السياسة ومخاطبة الحكام؛ لأنه أقدر على هذا العمل وأصلح له من زملائه، وإن كان فيهم من هو أوسع علما وأشهر بالتقوى، وكان منهم من يثق الناس بتقواه ويطمئنون إلى نزاهته في أمور الدين والرئاسة، وهكذا كان منهم من يفاوض الوالي التركي وليس هو بأعظم علماء البلد، وكان منهم من يفاوض القائد الفرنسي وليس هو بمكان الرئاسة العلمية، ولكنهم كانوا مرشحين لوظيفة السفارة بين الأمة والحكومة بما لهم من خبرة في سياسة الناس وأساليب الإقناع وعلاج المشكلات، ولغيرهم سمعته في هداية القلوب والبصائر والتماس الوسيلة عند الله إذا خابت الوسائل عند العباد.
ولم تنقطع الصلة زمنا طويلا بين هذه الرئاسة القوية الروحية وبين القرية المصرية من قرى الريف أو قرى الصعيد، وقد يغنينا عرض أسماء الشيوخ والرؤساء الذين اختارهم نابليون وألف منهم الديوان الكبير للعلم بمبلغ هذه الصلة بين الأزهر والقرية، فقد تألف هذا الديوان من عشرة ندر منهم من لم ينسب إلى قرية يعرف بنسبته إليها كما يعرف باسمه ولقبه، وهم: عبد الله الشرقاوي، والشيخ خليل البكري، والشيخ مصطفى الصاوي، والشيخ سليمان الفيومي، والشيخ محمد المهدي، والشيخ موسى الرسي، والشيخ مصطفى الدمنهوري، والشيخ أحمد الويشي، والشيخ يوسف الشبراخيتي والشيخ محمد الدواخلي. وقبل ذلك كان الشيخ «الشبراوي» يقول للوالي العثماني: إن الغالب على أبناء الأزهر أنهم أبناء القرية والريف.
وقد تقدم في الكلام على القرية خبر الثورة التي أثارتها شكاية أهل بلبيس لابن إقليمهم الشيخ الشرقاوي الكبير، فلا يفوتنا أن نذكر أن شكاية الأقاليم كانت تصل إلى قادة الأزهر من كل طائفة معتدى عليها، ولو وقع العدوان عليها في رحلة الطريق. وحدث أن سليمان بك أغا نهب سفينة لبعض أبناء الصعيد تحمل التمر والميرة وشيئا من الأزواد والأطعمة، وزعم الأغا أنه استخلص بما نهبه ديونا له على أولاد وافي من أهل الصعيد، فغضب المجاورون من الصعايدة وأبلغوا مشايخ الأزهر أن السفينة إنما كانت تحمل رزقا مرسلا إليهم من عشائرهم في قراهم، فركب الشيخ الدردير والشيخ العروسي والشيخ المصيلحي إلى الأمير إبراهيم بك، وواجهوا سليمان أغا في حضرته بكلام شديد، ولم يرجعوا إلا على وعد برد ما استلبه كله، مع البقية التي فضلت عنده مما استولى عليه. •••
Unknown page