فقالت الزهراء: «بالله دعني، أرجعني إلى القصر، لقد استغنيت عن رؤية أخي أو غيره، ويلاه ما هذا! أين أنا؟» قالت ذلك وأطلقت لنفسها عنان البكاء.
فتقدم سعيد إليها وأمسكها بيدها وقال: «لا تظني سوءا يا حسناء، نحن ذاهبون إلى أخيك. تعالي، اخرجي، انظري إلى السفينة، فإنها ستحملنا إلى منزل تجدين فيه أخاك، فتتحققين صدق قولي.»
فجذبت يدها من يده وتراجعت، ثم أعملت فكرها، فرأت نفسها منفردة هناك وندمت ندما شديدا على مجيئها، ولكنها لم تقطع الأمل من لقاء أخيها فتجلدت وأطاعت سعيدا في الخروج إلى السفينة فرأت الشراع منصوبا، فدعاها للنزول ولم تجد في السفينة أحدا من النوتية، وما لبثت أن رأت السفينة تخترق عباب الماء، وليس فيها أحد غيرها هي وسعيد وجوهر.
الفصل السبعون
الفشل
فلنتركهم يخوضون الماء ونرجع إلى عابدة عند الناصر وهي تسقيه المرطبات وتغنيه وتنادمه. قضت بقية ذلك النهار عنده وهو يتلهى بالحديث والشراب، فلما اقترب وقت العشاء كان الشراب والغناء والخلوة قد نبهت فيه ذكرى ابنه عبد الله، فتصور ما كان من تسرعه في قتله وكيف أن الزهراء قالت له إنه كان في إمكانها إقناعه واستبقاؤه حيا، ولامته على تسرعه، فأحس بشوق لرؤيتها ومحادثتها، فبعث في طلبها فلم يجدها في غرفتها، فألح في البحث عنها فلم يقف لها أحد على خبر، فغضب وغلبت عليه الحدة فأمر برفع المائدة وأخرج عابدة وطلب الانفراد ليناجي نفسه فيما فعله، هل أخطأ في قتل ابنه أم كان يستحسن أن يستبقيه، فقضى بقية تلك الليلة في أمثال هذه الهواجس، ولا يجسر أحد على مخاطبته.
أما عابدة فكان إخراجها من حضرة الخليفة صدمة قوية بالنسبة للهدف الذي كانت تهيئ نفسها له، وسارت توا إلى غرفة سعيد فلم تجده هناك، ولاحظت من حال الغرفة أنه خرج منها خروج المسافر، ومكثت على ذلك وهي تصبر نفسها لعله يأتي، فمضى هزيع من الليل ولم يأت، فخرجت تلتمسه عند الزهراء فوجدت مربيتها، وكانت قد تعرفت إليها، فسألتها: «هل رأيت سعيدا؟» فقالت: «لا هو ولا الزهراء.»
فأجفلت عابدة للحال، ودلها قلبها على مكيدة فقالت: «وكيف اتفق خروجهما معا؟»
فهزت كتفيها كأنها تتنصل من تبعة ما خطر ببالها، فأدركت عابدة أن تلك الوصيفة تشك في ذلك الأمر، ثم شاع في القصر خبر خروج الزهراء، ولم تبق وصيفة، ولا وصيف، ولا خادم، ولا خادمة إلا عرف به، وكلف تمام رئيس الخصيان بالبحث عنها في سائر القصور فلم يقف لها على خبر.
أما عابدة فإنها عادت إلى غرفة سعيد لتعيد النظر وتتفرس في الأشياء، فلم تزدد إلا اعتقادا بفراره، فانقبضت نفسها وتولاها اليأس، فجلست على مقعد هناك، وقد وهنت عزيمتها واسترخت كأنها أصيبت بغيبوبة، واستغرقت في الهواجس، وأخذت تراجع تاريخ حياتها مع سعيد وكيف كانت متيمة به، وهو يعدها بأن يتزوجها، وكيف جعل شرط الزواج فوز العبيديين على الأمويين، واستخدمها في كثير من الأحوال لتنفيذ أغراضه وآخرها دخولها قصر الزهراء على ما علمت، وكيف أراد أن يستخدمها في الفتك بالخليفة، وكيف أنها قبلت ذلك على أن تكون هذه المهمة آخر العقبات في سبيل الظفر بما تريد، ثم هو يفر من القصر بالزهراء! ولما تصورت فراره معها، أجفلت وجلست على المقعد والظلام حالك، فغلب عليها الانقباض وعمدت إلى البكاء.
Unknown page