فوقف سعيد تأدبا وحياء وقال: «لست شيئا من ذلك، ولكنني أكون كما يشاء أمير المؤمنين.»
فقال الناصر وهو يشير إليه أن يجلس: «اجلس ولا ينبغي أن تتهيب من مجلسنا، فقد علمت من خادمنا ياسر أنك من أهل العلم الواسع، ونحن نحب العلم ونكرم العلماء.»
فتحفز سعيد للوقوف ثانية، فأجلسه الخليفة وقال: «قلت لك لا تتهيب. إن العلماء ملوك العقول، ولا يستغني ملوك الرقاب عنهم. كن مطمئنا، ولأزيدك اطمئنانا أقول لك: انظر إلى عيني.»
فرفع سعيد بصره ونظر في عيني الخليفة فرأى الدمع فيهما، وأحس الخليفة عند وقوع بصره على بصر سعيد بقوة أثرت فيه، كأن سعيدا أرسل من عينيه أشعة نفذت إلى أحشاء الناصر، ولكنه أتم حديثه فقال: «أرأيت الدمع في عيني؟ إنه من احترامنا لأقوال أهل العلم. أرأيت قاضينا خارجا الآن؟»
قال سعيد: «نعم يا مولاي.»
قال الناصر: «وقد كان عندي الساعة، ولعلك تعلم أني وليته القضاء بالأمس، فما عتم أن خطب في المسجد وجعل موضوع كلامه نقد تشييد البنيان والإفراط في الزخرفة والإسراف في الإنفاق، وأغرق في ذلك، فعرفت أنه ينتقد ما أنشأته من هذه الأبنية، فما ملكت أن بكيت، ثم استقدمته إلي اليوم لأسأله عما أراده، فما كتمني قصده، وأتاني بآيات من القرآن الكريم تقبح عملي، فأشفقت على نفسي وبكيت، وإنما صارحتك بهذا القول لتطمئن نفسك وتخلص لي الخدمة.»
فحنا سعيد رأسه وقال: «إني عبد أمير المؤمنين وطوع إرادته.»
قال الناصر: «إني أعرفك قبل الآن يا سعيد، وقد طالما قرأت اسمك على الكتب التي أحضرت لنا على يدك، فهل عندك كتب جديدة؟»
قال سعيد: «لا يخلو الأمر من كتب سأعرضها على أمير المؤمنين، ولكنني أتيته بكتاب حي ناطق لا يسأل عن أدب أو شعر إلا نطق به.»
فشخص الناصر فيه كأنه يستفهم منه عما يقصد، فقال: «أعني الجارية عابدة التي صارت في قصر الزهراء الآن؛ فهي تغني عن الكتب، وقد انقطعت عن سائر الأعمال في سبيل تعليمها.»
Unknown page