Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
وقد كان موقفه حيال العلوم الحديثة أصح وأصدق من المعارضين لتلك العلوم من رجال الدين الجامدين في أمم العصر الحديث، ولا سيما الأمة الإسلامية. هم يقولون عن كل جديد إنه باطل، وإنه يناقض الكتب المقدسة والوصايا المأثورة، وهو من وقف كموقفه يرد التهمة على أصحابها وينعى عليهم أنهم يعارضون العلم والقرآن معا؛ لأن العلم والكتاب يتفقان، وما كشفه العلم حديثا يجدد ما سبق به الكتاب، أو أشار إليه.
وكان الكواكبي موفقا في توفيقاته؛ لحسن فهمه كتاب دينه، وحسن اطلاعه على كشوف العلم الحديث في عصره، ولم يحدث بعد عصره ما يدعو إلى شيء من الاستدراك على موقفه إلا التفرقة في عصرنا هذا بين النظريات العلمية ومقررات العلم التي بلغت من الثبوت أن تحسب من القوانين الطبيعية أو نواميس الوجود المتفق عليها، فإذا جاز أن نوفق بين حقائق الكتاب وحقائق العلم المقررة؛ فمن الحسن أن نصطنع الأناة قبل التوفيق بين الكتاب وبين النظريات التي يتناولها البحث ويتطرق إليها الخلاف بين وجهات النظر ومعارض الآراء، ونذكر على سبيل المثال تفسير السموات السبع بالسيارات السبع، أو تفسير طبقات الأرض في علم «الجيولوجية» بالسبع الطباق؛ فإن الكشوف الفلكية قد زادت عدد السيارات ولا تزال تزيدها مع إحكام الرصد وتعميم النظر إلى طوارق المنظومة الشمسية من المذنبات والنجيمات، وهم يحسبون اليوم سيارات المنظومة الشمسية ثمانيا، عدا الكرة الأرضية والنجيمات، ويحدث مثل ذلك في حساب طبقات الأرض على حسب تعريف الطبقة ومكانها من مدار الكرة الأرضية، فإذا كان من الثابت أن القرآن الكريم لم يشتمل على آية تمنعنا أن نتقبل حقائق العلم، فقد يقع الخلاف فيما يحسب من الحقائق العلمية وما يحسب من نظريات البحث والتجربة، وقد يدعو الأمر حتما إلى التفرقة الدائمة بين الحقائق والنظريات، وحسبنا من كتابنا المبين أنه يأمرنا بالبحث في العلم ولا يصدنا عن حقائقه ولا نظرياته ولا عن التوسل بمحاولة من المحاولات لتمحيص تلك الحقائق أو النظريات.
وبعد نيف وخمسين سنة من قيام الدعوة الكواكبية لا يزال أساسه القويم الذي اختاره للإصلاح الديني صالحا للبناء عليه: عقيدة خالصة من شوائب الجهل والسفسطة، تؤمن بدينها ودنياها على بصيرة.
الفصل الخامس عشر
الدولة
الكلام على الدولة وعلى نظام الحكم شيء واحد في مصطلحات السياسة على إجمالها، ولكنه لم يكن شيئا واحدا في كلام الكواكبي ومعاصريه؛ لأن كلمة الدولة كانت تعني عندهم «الدولة العثمانية» إذا أرسلت على إطلاقها، وكانت لها مسألة خاصة مستقلة بشئونها عن شئون النظم الحكومية، يحددها مركز الدولة العثمانية الذي كان في أخريات أيامها على الخصوص نمطا عجيبا بين الأنماط الدولية يندر نظيره بين دول الشرق والغرب بما لها من تكوين فريد في رئاسة الدولة وأجناس الرعايا وقوام السلطة ومواقع البلاد بين القارات الثلاث: أوروبة وآسيا وأفريقيا.
كانت الدولة العثمانية سلطنة أو «إمبراطورية» متشعبة تجمع ألفافا من الأمم التي تختلف بأجناسها وأديانها ولغاتها ومصالحها، ويدل على مبلغ تشعبها وانقسامها أن الأمم التي خرجت منها واستقلت عن سيادتها بعد ثورات الاستقلال وتقرير المصير زادت على عشر أمم ذات عشر حكومات.
وكان اسم الدولة العثمانية يطلق عليها؛ لأن حكامها من بني عثمان قبيلة تركية تنعقد ولاية الأمر فيها لسلطانها وقائد جيشها من أبناء قومه؛ إذ كان الرعايا الآخرون بمعزل عن جيش الدولة، لا يشتركون في هيئة عسكرية - غير الكتائب المحلية - إلا جنودا متفرقين لا يتجمعون معا في فرقة مستقلة.
وكان رئيس الدولة يضيف إلى ولاية السلطنة وقيادة الجيش صفة الخلافة الدينية ولقب «أمير المؤمنين».
وهي على هذا المركز الحرج تواجه الدول الأوروبية مواجهة العدو القديم الذي تتربص به الدوائر وتتألب عليه لتقسيم بلاده بينها أو لإدخالها في دوائر نفوذها وحمايتها، وقد كاد اسم «الرجل المريض» يغلب على هذه الدولة ويصبح علما عليها يجهرون به في خطبهم وأقوال صحفهم، ولا يتكلفون كتمانه في معاملاتهم وصفقات التبادل والمساومة بينهم، وسميت بلادها باسم «تركة الرجل المريض»؛ تعجيلا بقسمتها وتوزيع حصصها عليهم قبل أن يتنازعوها، إذا وقع القضاء المحتوم بين ساعة وأخرى.
Unknown page