Cabd Rahman Kawakibi
عبد الرحمن الكواكبي
Genres
وكشفوا وجود الميكروب وتأثيره في الجدري وغيره من المرض، والقرآن يقول:
وأرسل عليهم طيرا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل ... أي من طين المستنقعات اليابس.
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المحققة لبعض مكتشفات علم الهيئة والنواميس الطبيعية، وبالقياس إلى ما تقدم ذكره يقتضي أن كثيرا من آياته سينكشف سرها في المستقبل في وقتها المرهون ...
هذه الفكرة الضافية عن التوفيق بين الإسلام والعلم الحديث هي إحدى الأفكار الأساسية في دعوة الكواكبي إلى الإصلاح في جميع نواحيه؛ إذ كان الإصلاح الديني عنده غير منفصل عن إصلاح المجتمع كله في شئونه الدنيوية، وكانت فكرة ملازمة له منذ أخذ في الاطلاع على مراجع العلوم العصرية، فإن اطلاعه على تلك الكشوف التي أحصاها جميعا لا يتم في وقت واحد، ولا بد له من أوقات متتابعة يتخللها النظر والتأمل ويعود إليها بالمراجعة والمقارنة، فإن لم تكن فكرته هذه مما استوحاه في مطالعاته الطويلة فلعله قد استوحاها من دعاة التوفيق بين الدين والعلم الذين سبقوه إلى النظر في مشكلات العقيدة والتفكير منذ دعت الحاجة إلى وحدة التشريع - كما حدث في الدولة العثمانية - للتوفيق بين الأقضية المختلفة التي تطبق على رعاياها حسب اختلافهم في الجنس والملة، وسواء خطرت له فكرة الوفاق بين الإسلام والعلم الحديث ابتداء من أثر مطالعاته الخاصة، أو كانت إحدى خواطر العصر الشائعة على ألسنة المستنيرين. لقد تطورت في ذهنه وعاود النظر فيها حينا بعد حين سنوات غير قليلة، فقد كانت في ذهنه قبل أن يكتب «أم القرى»، وظلت في ذهنه إلى أن أودعها مقالاته عن طبائع الاستبداد، وزاد عليها ما استفاده من مطالعاته في هذه الأثناء.
ومما يلاحظ أن هذه الكشوف العلمية التي أوجز الإشارة إليها يوشك أن تحيط بإحصاء كشوف العلم الحديث في المسائل الكونية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كأنه ينقلها من سجل محفوظ، وهي ملاحظة ينبغي أن نتنبه إليها؛ لنعلم منها قوة اندفاع الأفكار الحديثة إلى البلاد الشرقية ومبلغ سريانها بين من يعرفون اللغات الأوروبية ومن يجهلونها، فإن الكواكبي لم يكن على علم بلغة من اللغات الأوروبية يساعده على المطالعة فيها، ولكنه قرأ أخبار الكشوف الحديثة واستقصاها كما يستقصيها غير المختصين بها من الأوروبيين أنفسهم في بلادهم، وتلك علامة قوية من علامات الصدمة التي أحسها الشرق بعد هزيمته أمام الغرب في غارات الاستعمار، ولنا أن نقول إنها كذلك علامة على اليقظة السريعة بعد تلك الصدمة الوجيعة؛ لأن سريان الفتوح العلمية مع الفتوح السياسية تشهد للشرق شهادة حسنة بالقياس إلى زمانها، وأقل ما في هذه الشهادة أنه تلقى الصدمة مفتوح العينين ليرى - وهو متنبه من غفوته - جهد ما يقدر أن يراه.
وكان رد الفعل سريعا كما نتبين الآن من موقف الكواكبي وإخوانه رواد الدعوة إلى الإصلاح، كان رد الفعل بين مصلحي الإسلام أسلم وأقوم وأدعى إلى الثقة والرجاء من رده العنيف بين الأوروبين: هناك كانت الأزمة أزمة الدين عند كثير من اليائسين، وهنا لم تكن للدين أزمة عند عارفيه، ولكنها أزمة الجهلاء به وبالعلم الحديث بين أهله، أو كانت أزمة الإقناع والاستنهاض لمحاربة الجهل بالدين الخالد والعلم الحديث على السواء.
ويقتضينا تقدير الكواكبي في هذا المقام أن نذكر الفارق بين نظرته إلى العلوم الدخيلة التي طرأت على الفكر الإسلامي حوالي القرن الثالث للهجرة، وبين نظرته إلى العلوم الدخيلة التي تلقاها المسلمون والشرقيون بعد ذلك بعشرة قرون، وهي من علوم النهضة الأوروبية الحديثة.
إن هذا الفارق بين نظرة الكواكبي إلى أثر الفلسفة اليونانية وأثر العلم العصري لهو آية من الآيات العديدة على استقامة النظرة العملية في تفكير هذا المصلح الحكيم؛ لأنه يتجه إلى الهدف المقصود بعد تثبيته والتيقن منه، ولا يبدد فكره وعزمه فيما يتشعب حوله من مطارح الظنون وأباطيل الأوهام على غير طائل، وهدفه هنا هو الإصلاح الديني في تجربته العملية، وخلاصة هذا الإصلاح الديني أنه هو العودة بالإسلام إلى بساطته الأولى، وقوامها الأول إيمان الضمير.
فالكواكبي لا يحفل - أمام هذا الهدف - بفلسفة اليونان من الوجهة النظرية، ولا يقومها في ميزان دعوته بقيمتها في الورق أو قيمتها في رءوس طلابها المنقطعين لها، وإنما يحكم على أثرها في التفكير الإسلامي حين يحكم على مذاهب أتباعها من المسلمين، وعلى أخلاط الوثنية التي اصطبغت بصبغتها واتخذت لها ألوانا من التصوف الكاذب، ومن التعمق الأجوف الذي تأباه بساطة الإسلام.
فالفلسفة اليونانية في ميزانه هي تلك الأخلاط العقيمة التي قال عنها بلسان المحدث اليمني وهو يصف العالم المجتهد ويشترط فيه: «أن يكون صاحب عقل سليم فطري لم يفسد ذهنه بالمنطق والجدل التعليميين، والفلسفة اليونانية والإلهيات الفيثاغورية، وبأبحاث الكلام وعقائد الحكماء ونزعات المعتزلة وإغرابات الصوفية وتشديدات الخوارج وتخريجات الفقهاء المتأخرين وحشويات الموسوسين ...»
Unknown page