فمن ذا الذي كان يوجهها إذن؟
الميثاق سبب الصدام بين اليسار
ويمضي جمال عبد الناصر في طريقه، فارضا رأيه، إيمانا منه أن الحق لا يأتيه الباطل من أي جهة كان، مخلصا في دعوته إلى عدالة اجتماعية حرم منها الشعب على مر التاريخ، قرأ ما قرأ عن الاشتراكيات جميعا، بينما هو غارق في خضم أحداث ومؤامرات تحاك من حوله، لا يكاد يطمئن إلى أي من تنظيمات، تقدمية كانت أم غير تقدمية، زخرت بها البلاد، ساعيا أبدا إلى خلق قاعدة شعبية تكون له سندا وقاعدة، ولن تكون إلا أن تدين له بولاء مطلق لا مساءلة فيه ولا حتى مجالا لاستفسار.
لم يكن إيمانه بالاشتراكية مناورة تكتيكية، وإنما إيمان راسخ عميق، ولكن أي اشتراكية؟ قراءاته تنبئه بأن التطبيقات متعددة تعدد نظم البلاد التي رفعت شعاراتها، لم يتردد لحظة في أن يسارع ويرفع شعارها هو الآخر، ولكنه يريدها اشتراكية خالصة لمصر، منبثقة من أرضها، متوائمة مع طبيعة شعبها، فيقرأ ما يقرأ، متحسسا الطريق، ويعلق بذهنه ما يعلق ويرفض بشعور ما كان يعتقد بإخلاص أنه ينافي الأحوال والظروف.
يستحثه انفصال سوريا، فلا مفر من القضاء على الموانع والمعوقات، ويخرج علينا الميثاق، هو الجامع لمواقف معينة وردود فعل محددة، استخلصها من قراءاته المتعجلة - فإنه في سباق مع الزمن - ومن تجارب صراعات خاضها ضد توغلات الإقطاع والرأسمالية المستغلة، ومن مرارة الهزيمة أمام الفئات التي تضافرت على تجربته السورية.
رفع الميثاق في صورة من نظرية مستوثقة الأركان، في نظر اليسار المصري، في نظر أي يسار، إنها مجموعة من مواقف لا يمكنها أن ترقى بحال إلى مكانة النظريات.
فالنظرية، أي نظرية، في عرفهم إنما نتاج تحاليل دقيقة لمسارات تاريخ المجتمعات البشرية، الاشتراكيات أنواع ولكنها جميعا مهما اختلفت بينها الملامح التطبيقية، إنما منبثقة من أصول النظرية الماركسية، نظرية عكف عليها صاحبها وزملاء له بعد دراسات متأنية للتاريخ، أفنوا فيها عمرهم، يضيف إليها لينين من واقع تجارب حية في مجتمع انعزل به أو يكاد عن العالم الخارجي.
أما هنا في مصر، فأي تجارب تلك قمنا بها؟ نشاطات الأجهزة الشعبية إنها سلسلة من اجتماعات يتبارى فيها الخطباء تمجيدا للثورة ومآثر الثورة ... حاول مرة أحد أعضاء لجان الاتحاد الاشتراكي بالصعيد أن يشيد بجهود قام بها الطلبة في رفع معنويات الفلاحين؛ أتت السيول على منازلهم فجرفتها من أساس، ويقوم أبناء المنطقة من طلبة، توافق أن عادوا خلال إجازات دراسية، فيخوضون المناطق المنكوبة، جنبا إلى جنب مع الأهالي، ليعينوهم على إعادة البناء فيدب فيهم الحماس بعد أن كان هدهم اليأس، ويحاول عضو لجنة الاتحاد الاشتراكي أن يسترسل فيحلل النتائج التي يمكن الوصول إليها بالاستمرار في خلق مجالات من تعاون مثمر بين الفئات الشعبية، كتلك إذ تضافروا على مواجهة الكارثة، ارتقاء إلى حياة أفضل، وإذا بصوت يزجره من فوق المنبر، صوت طالما سمعته رزين النبرات، نافذا إلى الأعماق، ولكنه يختلج الآن بضيق وانفعال: «أنا باسألك عن العمل السياسي، مش عن شيل الطوب وشغل الفعلة! إيه هو العمل السياسي اللي عملتوه؟»
ونزلت الكلمات كأنها المطرقة، فيتعثر المتحدث، ويلجم عن متابعة الحديث، فقد كان المطلوب هو تقرير عن عدد الندوات التي عقدت، وأساليب التوعية من خطب وشعارات، ومن كان الخطباء المفوهون الذين يرجي من ورائهم التأثير على المشاعر وإلهاب العواطف.
ومثل آخر، ربما بدا تافها ولكنه عميق الدلالة؛ إذ جزعت من هبوط المستوى في المدرسة التي التحق بها ابني الأصغر، رغم ما كنت أعرف عن مديرها من سعة اطلاع وراسخ خبرة، فيعتذر بأن لم يعد في وسعه بذل ما كان يبذل من وقت فيشرف على سير الدراسة: «وماذا أفعل؟ فإن اجتماعات لجنة الاتحاد الاشتراكي لا تترك لي لحظة فأتفقد سير العمل، إنها تنعقد وقت الدراسة.»
Unknown page