أما النظم التقدمية فلها في تقديره مؤشرات معروفة تدل عليها: القضاء على الأمية، وانخفاض معدلات الانحراف بأنواعه، ونهوض التعليم، وارتفاع مستوى الصحة العامة إلخ؛ لذلك كان من الصعب أن ندرج التجربة الناصرية ضمن النظم التقدمية فسلبيات النظام لا تخطئها عين.
هذا مجمل تقييم الدكتور للنظام الناصري: سلبياته غلبت إيجابياته وتطبيقاته الاشتراكية خذلت مبادئه:
وهنا لنا أن نتساءل: من أين إذن جاء عداء الاستعمار الشديد لمثل هذا النظام؟ وإذا كان الزيف طابعه فلماذا يأتي العدوان تلو العدوان لإزاحته؟ وكيف نفسر سلسلة المؤامرات التي لم تكف للإطاحة به؟ ولماذا تتصاعد هجمات اليمين المسعورة اليوم لتصفيته من الداخل ... وتصفية آثاره.
شيء من هذا لا نعثر له على جواب، وإنما تقدم السلبيات كالألغاز بلا تفسير، إلا إذا فهمت انطلاقا من شخصية الزعيم وفساد نظامه، كما لا نجد من يرشدنا في بحر النظم الوطنية التقدمية التي يموج بها عالمنا الثالث، لنحكم لها أو عليها إلا إذا أخذنا بحساب المكاسب والخسائر وقوائم الإيجابيات والسلبيات.
أما الجواب فيكمن في الحقيقة لا في شخصية الزعامات في الحل الأول ... دونما تقليل لدور الشخصيات والزعامات التاريخية ولا في هذه القوائم والحسابات، بل في طبيعة هذه النظم من حيث تركيبها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ووضعها ودورها في حركة الثورة الوطنية والعالمية في مرحلتها الراهنة.
هذه النظم جميعا في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية لا تقاس بمعايير الاشتراكية مهما رفعت من شعاراتها، أو تطلعت إلى آفاتها. بل هي تنتمي بالفعل وبلسان زعمائها أنفسهم، ومنهم عبد الناصر إلى حركة التحرير الوطني، والتي تلتحم بالثورة الاشتراكية العالمية، وتشكل جزءا من قواها.
وبطبيعة هذه النظم الوطنية والمعادية للإمبريالية والطبقات الإقطاعية والرأسمالية العميلة الضالعة معها، فهي تعبر عن مصالح الطبقات والفئات الوطنية وهذا ما يشكل جوهر تقدميتها ويساريتها رغم كل شيء.
ولأن هذه النظم في بلدان مختلفة بدرجات متفاوتة؛ فالقيادة فيها عادة للبورجوازية الوطنية بأقسامها وأجنحتها المختلفة تبعا لنموها وتطورها، والأيديولوجية الغالبة والفكر الرائج للبورجوازية الصغيرة بجاذبيته الشديدة، وفيه تختلط شعارات الوطنية والتقدمية والعصرية، بضيق الأفق وقصر النظر، كما تختلط الاشتراكية بالمحافظة بل وبالسلفية أحيانا، وتتوه الحقائق في ضباب كثيف من الخيالات والشعارات.
هذه النظم بتركيبها هذا تحدت الإمبريالية وخاضت ضدها أعظم معاركها ... ومنها تستمد أمجادها ورصيدها أو إيجابياتها ... كما دعمت استقلالها بإجراءات إصلاحية راديكالية متقدمة: إصلاح زراعي، وتأميمات واسعة واستعادة للثروة القومية وبرامج للتنمية والتصنيع.
هذه الثروة المنتزعة من الاستعمار ومن الطبقات الرجعية القديمة، كان من المفروض، في ظل أوضاع ديموقراطية وتحالف وطني حقيقي، أن تعود ثمارها للشعب العامل في المحل الأول ... ولكنها عادة تنتزع لتتكدس في يد طبقات وفئات وشرائح اجتماعية جديدة ... تدعم مصالحها ومراكزها المستحدثة بالانفراد والتسلط وعزل الشعب العامل وحرمانه من جني الثمرات؛ وهي لذلك تهدر شروط الوحدة الضرورية بين القوى الوطنية والتقدمية لتستبدلها باليفط وشعارات التحالف. وبأجهزة القهر والقمع في نفس الوقت، وتظهر بؤر الفساد مثل البثور على الوجه وتنبت السلبيات في سرعة العشب الشيطاني ... ويشتد الصراع والقلق ... وتحت البرك الآسنة تعاود الروح الطبقات القديمة الرجعية والعميلة وتشتد عزيمتها على النشاط والحركة.
Unknown page