ولا جدال في أن تمسك اليساريين بصواب التجربة السابقة، وإصرارهم العنيد على أنها كانت «اشتراكية» فعلا، كفيل بأن يفقدهم تلك القواعد الجماهيرية العريضة التي كانت تحوطهم بالعطف والتأييد حين كانوا يدعون إلى اشتراكية حقيقية، أي في تلك الفترات التي لم يكونوا فيها قد ارتبطوا بتجربة محددة في الحكم أصبحوا يدافعون عنها كما لو كانت تجربة تنتمي إلى صميم مبادئهم.
أمنا الغولة
ولنتساءل هنا: هل كانت تلك التجربة مؤيدة لليسار إلى الحد الذي تصوره اليساريون؟ وهل ساعدت بالفعل على خدمة المبادئ التي ظل اليساريون يدعون إليها طوال حياتهم؟
إن هذا السؤال، على الرغم من أهميته القصوى، يثير إشكالات يصعب البت فيها برأي نهائي في المرحلة الراهنة؛ نظرا إلى التعقيد الشديد للموضوع ووجود عناصر كثيرة فيه لن تتكشف إلا بمضي للزمن، ولكن في وسعنا أن نشير إلى بعض التساؤلات التي تطرحها التجربة، والتي تساعد القارئ على استخلاص النتائج المترتبة عليها بنفسه.
ففي الوقت الذي أعلنت فيه قرارات التأميم، كانت قد مضت على اليساريين سنتان ونصف في المعتقلات، ومن الأمور التي ربما لم يخطر ببالهم التفكير فيها أنهم قضوا بعدها سنتين ونصفا أخريين في نفس المعتقلات أليس لهذه الظاهرة دلالتها؟ ألم يكن من المنطقي، إذا كانت تلك القرارات قد اقتربت مما ينادون منه ولو لمنتصف الطريق، أن يفرج عنهم بعدها؟
أما الإفراج الفعلي فقد حدث بدافع الرغبة في مجاملة طرف رئيسي في التوازن الدولي، على الرغم من نفور اليساريين الشديد من هذا التفسير، وتأكيدهم أن الإفراج كان نتيجة «لظروف موضوعية».
ومن المؤكد أن تفسيرهم هذا أكثر إرضاء لهم؛ لأنه يعطي لتضحياتهم معنى، ولكن من المؤسف أنه غير صحيح؛ إذ لو كان الدافع الحقيقي هو تلك «الظروف الموضوعية»، وحدوث تغير حقيقي في موقف السلطة الحاكمة تجاههم، لما ظلوا في المعتقلات بعد قرارات التأميم مدة تساوي تلك التي قضوها قبل صدورها.
ومما زاد في اضطراب أحكام اليساريين، بعد خروجهم، أن عددا كبيرا من أقطابهم عينوا في مراكز رئيسية في الدولة، وفي ميادين الإعلام والثقافة بوجه خاص، فازداد في نظرهم رجحان كفة التفسير المفضل لديهم، وهو أن سياسة الدولة الرسمية تزداد اقترابا منهم، وحتى عندما كانت تظهر من آن لآخر شواهد قاطعة تدل على بطلانه، كانوا يغمضون أعينهم عنها وكأنها لم تكن.
ولا جدال في أن النقلة المفاجئة من جحيم الواحات إلى رئاسة مجالس الإدارات، كانت عاملا من العوامل التي تساعد - ولو بطريقة لا شعورية - على استخدام منطق التبرير في مثل هذه الحالة، وهم على أية حال كانوا يعلمون جيدا، من تجربتهم السابقة، ما هو البديل المطروح أمامهم.
ولكن هل كان هذا التكريم والتمجيد لليساريين دليلا على تحول حقيقي، في السياسة الرسمية، نحو اليسار؟
Unknown page