فاشتد خفقان قلبه وحاول أن يقول شيئا، ولكن سنفر لم يمكنه من غايته فضحك عاليا، وقال باهتمام: من هي؟ ... من هي يا ددف؟ ... آه ... إنك تنظر إلي نظرة إنكار؟! لن ألح عليك الآن فسأعرفها يوما وهي أم أبنائك، يا للذكرى! أتدري يا ددف؟ لقد تنهدت في هذا المخدع منذ عامين كتنهدك هذا، وبت ليلي أناجي أطياف الأحلام، وفي العام الثاني صارت زوجي المحبوبة، وهي الآن أم ابني فانا. فيا لها من حجرة موبوءة بالغرام! ... ولكن ألا تقول لي من هي؟
فقال ددف بحدة أملتها عليه أحزان قلبه: أنت واهم يا سنفر! - أواهم أنا! أشباب وجمال وقوة وجفاف؟! مستحيل! - هو الحق يا سنفر! - كما تشاء يا ددف فلن ألحف عليك بالسؤال، وبمناسبة حديث الغرام هذا أقول إني سمعت همسا في أروقة القصر الفرعوني، يدور حول ذكر أسباب أخرى لمجيء الأمير أبوور غير سبب الحرب الذي حدثتك عنه. - ماذا تعني؟ - يقولون إنه ستتاح للأمير فرصة مشاهدة صغرى الأميرات عن كثب، وهي ممن يضرب بجمالهن المثل، فربما زف إلى الشعب المصري قريبا بشرى خطبة الأمير أبوور للأميرة مري سي عنخ.
وكان هذه المرة شديد الخور، فتماسك وكتم عواطفه، وتلقى الضربة بصبر عجيب، ولم يعلن وجهه عن شيء مما يعترك في قلبه، وأمن خطر عيني صاحبه النافذتين ولسانه الثرثار الأليم، وحاذر أن يعلق على كلام صاحبه بكلمة أو أن يستزيده من الإيضاح خشية أن تفضحه نبرات صوته، فصمت صمتا ثقيلا رهيبا كأنه جبل شامخ أقيم على فوهة بركان.
ولم يكن يدري سنفر ما بصاحبه، فاستلقى على فراشه وقال وهو يتثاءب: إن الأميرة مري سي عنخ على جمال عظيم، ألم ترها؟ إنها أجمل الأميرات، وهي كشقيقها ولي العهد شديدة الكبرياء، ذات إرادة من حديد، يقولون إنها تتمتع بحب لا نظير له في قلب فرعون، فثمن جمالها سيكون عاليا بلا ريب ... حقا إن الجمال يذل أعناق الرجال.
وتثاءب سنفر مرة أخرى وأغمض عينيه، وكان ددف يرمقه على ضوء المصباح الخافت بعينين كدرهما الحزن والأسى، فلما أن اطمأن إلى استسلامه للنوم أطلق لنفسه عنان التألم والحزن، ونبا به الفراش وأحس بضيق شديد يزهق النفوس، فترك الفراش على أطراف أصابعه، وانسل إلى خارج الحجرة، وكان الجو رطبا والنسيم باردا، والليل حالك الجلباب، تلوح أشجار النخيل في ظلمته كأشباح نائمة أو أرواح تعسة أضناها الخلود.
22
وبعد انقضاء بضعة أيام علم كل من في القصر أن سمو ولي العهد دعا الأمير أبوور، وصاحبة السمو الأميرة مري سي عنخ، وشتيتا من الأمراء والأصدقاء، إلى رحلة صيد بالصحراء الشرقية.
وفي صباح اليوم الموعود جاءت الأميرة مري سي عنخ، وكان وجهها كهالة من بهاء ونور يشرق سناء على القلوب فيغمرها بحياة الأفراح، وجاء على أثرها سمو الأمير أبوور مصحوبا بالحاشية، وكان في الخامسة والثلاثين قوي البنيان مهيب الطلعة يدل مظهره على النبل والشرف والبسالة.
وكان كبير حجاب القصر يشرف بنفسه على إعداد قافلة الصيد، وتزويدها بما يلزمها من الماء والزاد والسلاح والشباك، واختار رئيس الحرس لمرافقتها مائة جندي من جنود الحرس جعل على قيادتها عشرة ضباط من بينهم ددف، وهؤلاء غير الخدم ومساعدي الصائدين. ولدى نزول ولي العهد إلى حديقة القصر تحركت القافلة العظيمة، وكانت تتقدمها كوكبة من الفرسان الخبيرين بطريق الصيد، وسار خلفهم صاحب السمو الفرعوني الأمير رعخعوف، وإلى يمينه الأميرة الفاتنة مري سي عنخ، وإلى يساره الأمير أبوور، تحيط بهم هالة من الأمراء والنبلاء، وتبعت ذاك الموكب الجليل عربة تحمل قرب المياه، وأخرى تحمل الزاد وأدوات الطهي والخيام، تليهما ثالثة ورابعة وخامسة تحمل أدوات الصيد والقسي والسهام، تسير جميعا بين صفين من الفرسان، وتتبع العربات القوة الباقية من فرسان الحرس المرافق للرحلة، يتقدمها ضباطها الذين كان منهم ددف. وسارت القافلة صوب الشرق تاركة خلفها المدينة العامرة، والنيل المعبود، تولي وجهها شطر الصحراء، لا ترى حيثما تلقي الطرف إلا فضاء وأفقا رحيبا يعز بلوغه على الإنسان مهما طال به المسير، كأنه ظله الممدود أمامه يتقدمه كلما تقدم.
وكان صباحا نديا، وكانت الشمس طالعة يفرش سناها أرض الصحراء ببساط من الأنوار، ولكن جعلها النسيم البارد الساري في تضاعيف الهواء بردا وسلاما عليهم، فكانوا تحت أشعتها كالأشبال بين أنياب اللبؤة ...
Unknown page