فقال خنى بامتعاض: إن العقل الفاضل لا يستغني عن الحكمة يوما، كما أن المعدة السليمة لا تزهد في الطعام بعض يوم. ينبغي أن تعوض ما فاتك يا ددف، لا تنس هذا مطلقا، إن فضيلة علم الحرب أنه يؤهل الجندي لخدمة وطنه ومولاه بالقوة، ولكن الروح لا تفيد منه شيئا، والجندي الذي يجهل الحكمة، كالحيوان الأمين ليس إلا، قد ينفع بوحي غيره، فإذا ترك لنفسه عجز عن إفادة نفسه فضلا عن الآخرين، وقد ميزتنا الآلهة عن الحيوان بالروح، وإذا لم تتغذ الروح بالحكمة هوت إلى حضيض الحيوانية. لا تغفل عن هذا يا ددف؛ لأني أشعر من أعماق قلبي بأن روحك سامية، وأقرأ على جبينك الجميل أسطرا باهرة من المجد والجلال، باركك الرب في روحاتك وغدواتك ...
وتسلل الحديث بينهما عذبا شهيا لقلبيهما، وكان آخر ما تحدثا به زواج نافا، وعلم به خنى من ددف لأول مرة، فبارك الزوج والزوجة، وهنا خطر لددف خاطر فسأله: ألا تتزوج يا أخي؟
فقال الكاهن للشاب: كيف لا يا ددف؟ إن الكاهن لا يستطيع أن يخلد إلى طمأنينة الحكمة ما لم يتزوج، وهل يستطيع المرء أن يتطلع إلى السماء وفي النفس نزوع إلى الأرض؟ إن فضيلة الزواج أنه يخلص من الشهوات ويطهر الجسد. •••
وغادر ددف حجرة أخيه عند منتصف الليل، وآوى إلى حجرته، وأخذ يخلع ثيابه ويستعيد حديث الكاهن، ثم أخذت تعاوده أحزانه ويتذكر عذاب يومه وخيبته فيه، وقبل أن يضطجع على فراشه سمع طرقا خفيفا، فأذن للطارق بالدخول، فدخلت زايا يبدو على هيئتها الوجوم وسألته: هل أيقظتك؟
فقال وقلبه يتوجس خيفة: كلا يا أماه لم أنم بعد، خيرا؟
وترددت المرأة وهمت بالكلام، فلم يطاوعها لسانها، فأشارت إليه أن يتبعها، فتبعها قلقا حتى انتهيا إلى مخدعها، وأشارت إلى الأرض، فنظر فرأى جاموركا ممددا كأنه أصيب بسهم قاتل، فلم يتمالك نفسه أن صاح بذعر: جاموركا ... جاموركا ... ما له يا أماه؟!
فقالت المرأة بصوت مختنق: تشجع يا ددف ... تشجع يا عزيزي.
فانخلع قلبه في صدره، وركع إلى جانب الكلب العزيز الذي لم يلقه كعادته بالقفز والفرح، وربت على جسمه فلم يبد حراكا، فنظر إلى أمه بعينين كئيبتين وسألها: ما له يا أماه؟ - فقالت المرأة: تشجع يا ددف إنه يحتضر!
فارتاع الشاب لتلك الكلمة المرعبة وقال محتجا: كيف حدث هذا؟ لقد لاقاني في الصباح كعادته. - لم يكن كعادته يا عزيزي، إلا إذا كان فرحه بك محا آلامه ساعتئذ، لقد طعن في العمر يا ددف وبدا عليه في الأيام الأخيرة وهن الوداع ...
فاشتد الألم بددف وتحول إلى الصديق الأمين، وهمس في أذنه بحزن عميق: جاموركا ... ألا تسمعني؟ جاموركا!
Unknown page