قال: «سأذهب إليها وأكلمها ... إنكم أيها الشبان لا تأتون البيوت من أبوابها أبدا ... تعقدون البسيط، ثم تروحون تبحثون عن حلول مستحيلة، لماذا تفرض أن أمك ستعارض حتما في زواج فيفي من هذا الشاب ... لماذا لم تقدمه إليها وتتركها تفطن إلى مزاياه على الأيام ...؟»
قال زكريا: «لأني أعرف أمي.»
قال: «بل لأنك لا تعرفها وتبني سلوكك على أوهامك ... تعال.» •••
بعد أن قص الطبيب الحكاية كلها على الأم وهي واجمة من فرط الدهشة قال: «لقد أدركت أن ابنك لا يعرفك ... هو يظن أنه يعرفك ... ولكنه مخطئ ... توهم أنك عنيدة وأنك تجرين وراء المال ... وغاب عنه أنك لا تطلبين لابنتك مالا بل رجلا صالحا ... لأنك تدركين أن الرجل الصالح لا يقوم بمال، وقد أقنعته بخطئه ... غريب أن أعرفك أنا الغريب خيرا مما يعرفك ابنك، ولكنه شاب وأنا رجل مجرب ... وأظنك توافقين على أن لي فراسة في الناس ... والآن صار عندنا الرجل الصالح ... ولكني أنصح لك بالتمهل حتى تختبري هذا الشاب بنفسك، وتعرفي أهله وتطلعي على سيرته ... على أني كصديق قديم لكم أنصح أيضا بوجوب الحرص على كتمان هذه الحكاية ... حكاية المرض والطبيب إلى آخر ذلك لئلا تدور على ألسنة الناس وتصبح مادة للسخرية منكم ... ولا أدري كيف أعتذر لك مما كان مني، ولكن حبي لكم هو الذي أفقدني الرشد لحظة ندمت بعدها أشد الندم ... على كل حال أراني قد تداركت الأمر وأصلحت ما اشتركت فيه من الغلط ... سامحيني ... وإلى الملتقى.»
ولما أقبل ابناها يعتذران إليها بعد أن انصرف الطبيب ويطلبان الصفح لم تزد على أن قالت: «خوف الفضيحة فقط هو الذي يجعلني أبلع هذا العبث منكما ... لقد كنت دائما أقول إن الأخوين لا يكونان هكذا ... وكنت أخشى عاقبة ذلك ... لا بأس، الأمر لله.»
ولكنها ما لبثت أن أحبت حمادة بعد أن عرفته، فلما أنست فيفي منها الميل إليه سألتها عن رأيها فيه، فقالت الأم وهي تقبل ابنتها: «الحق إنك معذورة ... إنه آية ... فلتة ... الله يوفق.»
كيف كنت غيري
كنا نقصف - ذات ليلة - في فندق كبير في «ضهور الشوير»، والقصف أن نشرب ونضحك ونأكل - بعيوننا - الفتيات الممشوقات اللواتي يخطرن في المرقص مع السعداء من الشبان، وكانت الأنوار في المرقص ألوانا شتى متعاقبة، وكان الضوء الأرجواني - حين ينساب الفتيات فيما يترقرق عليهن منه - أقوى فتنة وأشد إغراء، فكنا ننهض عن المائدة ونتزاحم على أبواب المرقص، وعيوننا تكاد تخرج من فرط التحديق، وكانت هناك فتاتان تتراقصان وتأبيان أن يخاصرهما الرجال، وكانتا ساحرتين؛ في جمالهما، ودلهما، ولعبهما، وحركاتهما، فأغريت بهما أحد رفاقي - وكان يجيد الرقص - وأنا أقول لنفسي: «إذا راقص إحداهما عرفناهما جميعا وفزنا بصحبتهما»، ولكنهما ردتاه ببسمة وكلمة رقيقة لا تغني ولا تسمن.
فقلت لنفسي: «لم يبق لها إلا رجالها»، ودنوت منهما وقلت وأنا أتناول كرسيا وأجلس بغير استئذان: «أمن قلة في الرجال تتراقصان؟»
فقالت إحداهما - بعد أن ألقت على صاحبتها نظرة: «بل من كثرتهم.»
Unknown page