Al-burhān fī wujūh al-bayān
البرهان في وجوه البيان
Genres
وأما معاملته الأعوان والعمال فأول ذلك أن يختارهم في أماناتهم وثقتهم وعملهم بما يسند إليهم، ودربهم فيه حتى يكونوا أفضل من ييسره الوقت إليه من نظرائهم، وألا يؤثر بالعمل من وجب حقه وتأكده حرمته إذا لم يكن منه كفاية من عمله، بل يسع هذا الصنع من الناس ماله، فيقضي به حقوقهم عنه، ولا يضيع أمر سلطانه بأن يسندها إلى من لا يضطلع، وليكن من يختاره من الكفاة ذوي النزاهة والطب دون ذوي الشره والنطف وليكن باختيارهم أعنى منهم بجمعهم، فإن زجاء الأعمال ليس بكثرة الأعوان، ولكن بصالحي الإخوان، وليس ما ينفع بالأعوان حتى يكونوا لمن هم معه وأدين، وعلى نصيحته مثابرين، ولا ينتفع بالمحبة والنصيحة # إلا مع الرأي والعفة. وأعمال السلطان كثيرة، ومن يحتاجون إليه فيها من العمال كثير، ومن يجمع لهم كل ما يحتاجون إليه قليل. والوجه الذي يستقيم به تدبير الوزير في أمرهم أن يعرف ما عند كل واحد منهم من الرأي والغناء والأمانة، وما فيه من العيوب، ثم بوجه لكل عمل من أعماله من قد عرف أن له من الرأي والقوة ما يحتاج إليه في ذلك العمل، وأن ما فيه من العيب لا يضر به وأن يتفقد أمورهم بعد ذلك حتى لا يخفى عليه إحسان محسن، ولا إساءة مسيء، ثم عليه ألا يدع محسنا بغير وثاب، ولا مسيئا بغير تأديب وعقاب، فإنه إن ضيع ذلك منهم تهاون المحسن واجترأ المسيء، وفسدت الأمور؛ وأن يتهم بعضهم على بعض، ويعرف مخرج النصيحة من مخرج السعاية، فقد تتشابه مخارجها على من لم يلطف ليتميز ما بينهما، ومتى وجد بعض أصحابه طريقا إلى إهلاك بعض أو تهجينه أو تغطية محاسنه لم يأل في ذلك جهدا، إما للبغي والحسد، وإما للمنافسة في المحل، وليعلم عماله منه أن الخير لا يصاب من جهته إلا بالمعونة على الخير، وأن الشر لا يلحقهم من جهته إلا بالمعونة على الشر، فإنهم إذا علموا ذلك منه وافقوه عليه، وتصنعوا به له، والمتصنع خير من أنت واجده بعد الموافق ثم ليعلم أنه ليس من أحد خلا من العيوب ولا من الفضائل، بل في كل واحد من الآخرين جميعا منافسون له فلا يطرح ذا العيب الواحد حتى لا يستعين به، ولا يخشى ذا الفضلة حتى يركن إليه، بل يتوفى عيب هذا، ويستمتع بما فيه من الفضائل، ويستمتع بفضل هذا ويتقي # ما فيه من العيوب، وليعلم أن كثيرا من الأعوان والعمال ربما تجمعوا عند السلطان لجمع المال وتوفيره، وركبوا في ذلك ظلم أهل الخراج فبالإغضاء لهم، والإحسان إليهم، والعدل عليهم يتوفر ماله، وبالتقصي عليم، والظلم لهم يكن ذهابه، فمن تزين عند سلطانه بما يخرب به مملكته ويفسد من أجله سلطانه، ويقرب إليه بعاجل يفسد به الآجل، فإن عقوبته الإبارة به، وقد كانت الأكاسرة تقتل أمثال هؤلاء، وتقطع أيديهم وأرجلهم، وتمثل بهم، وكان المأمون يقول: ما استغزر الفيء بمثل العدل، ولا استنزر بمثل الجور فمن وجد من عماله قد أتى من ذلك ما وصفناه، فإنما أتى بما يعود بالضرر على الكافة، وتنتقض به عرا المملكة، فليبالغ في عقوبته وتأديبه، ومن رآه مستقصيا لحقوق عمله من غير إضراب رعيته ولا تحيف لمن تحت يده، مؤثرا للعدل، عاملا بما يعود بالعمارة وصلاح الأحوال، ورفاهة العيش، فليعلم إنما حلب حلبا للسلطان شطره، وعمل بما يعود عليه في سلطانه نفعه، فليحسن إليه، وليتبين جميل أثره عليه، فهذه جملة ما ينبغي للوزير أن يسوس به عماله.
Page 338