لكن الدرس الهام الذي خرج به هذا الكاتب من تلك التجربة، هو أننا لو عقلنا ألفينا أن أسلافنا وهم يعالجون تلك المشكلة، التي هي نفسها المشكلة التي نتحدث عنها اليوم على أنها مشكلة «التراث» والحفاظ عليه، نراهم يحصرون المشكلة فيما يمس جوانب ثقافية قائمة بالفعل عندهم، ولم يجاوزوا ذلك ليجعلوها مشكلة تشمل كذلك الجوانب التي لم يكن في حياتهم مثيل لها، فلم يسأل أحدهم: أنأخذ عن اليونان ما قد وصلوا إليه في علوم الرياضة، والفلك، والفيزياء، والكيمياء، والنبات، والحيوان وغير ذلك؟ بل هم لم يسألوا هذا السؤال عن مشكلات إنسانية اجتماعية وجدوا حلولا لها عند اليونان ولم يكن لها مثيل عندهم، ولك أن تراجع كتاب «الأخلاق» ل «مسكويه»، فتراه يأخذ عن التصور اليوناني لعلم الأخلاق أصولا كثيرة، فلم يقلقه هذا الأخذ ولا أقلق سواه مع أن الموضوع خاص ب «الأخلاق» وتنظيرها، مما كان يمكن للمعترض على متابعة اليونان فيه أن يجد الكثير الذي يعترض به؛ إذ «الأخلاق» تمس صورة الحياة الإنسانية في الصميم، فإذا كان هذا هو موقف القدماء في مشكلة «التراث» أيامهم، أليس الأجدر به أن يكون هو موقفنا اليوم إزاء المشكلة ذاتها؟
ومن الحديث عن «الثقافة» ومعانيها التي تحققت في حياتنا أو لم تتحقق، نخصص القول الآن حول عنصر ثقافي واحد، لعله أخطر العناصر جميعا؛ لأن إصلاحه إصلاح للوقفة الفكرية كلها، وفساده فساد للوقفة الفكرية كلها أيضا، ألا وهو عنصر «اللغة»، ولتكن هذه هي البذرة الخامسة من بذور الشجرة الثقافية كما هي قائمة بيننا، ولسنا نريد باللغة هنا نحوها وصرفها واشتقاقاتها، كلا بل نحن لا نريد التحدث عنها من حيث صوابها أو انحرافها عن الصواب، في هذه المفردة من مفرداتها أو تلك، في هذا التركيب اللغوي أو ذاك، وإنما نريد «اللغة»، في فلسفتها ومنطقها ، فها هنا وقع ما وقع مما تعرضت له حياتنا الثقافية كلها من حيث جانبها المتصل ب «الكلمة».
والذي يعنينا الآن هو أن نصب الضوء على أمرين، ومنهما أمر يتشعب شعبتين. أما الأمران فهما أن هنالك ضربين من استعمال اللغة؛ فهي إما تشير إلى واقعة من وقائع العالم من حولنا، وعندئذ يستطيع المتلقي أن يراجع صدقها على الواقعة المشار إليها، وإما تشير إلى حالة خاصة عند المتكلم، كأن يقول إنه يشعر بالظمأ، وعندئذ ليس في وسع أحد أن يراجع قوله تصديقا وتكذيبا، ووجه الخلط الذي نغرق فيه حتى أذقاننا، ونتعرض - بالتالي - لما ليس له حدود من التخبط الفكري، هو أن المتكلم أو الكاتب قد يقول عما يشعر به هو شعورا خاصا، ثم يلزم الآخرين بأن يتقبلوا قوله دون أن يكون لهم حق المعارضة بأن ما قاله بضاعة خاصة به، هو حر في قبولها، والآخرون بدورهم أحرار فيما يشعرون به أو لا يشعرون.
على أن هذا الجانب الشعوري يعود فينقسم قسمين، أولهما أن يجيء الكلام من النوع الذي يتبادل الناس به أحاديثهم بغير قيد ولا شرط، والثاني هو أن يصب الكلام في صورة تجعله «أدبا» فيكون قصيدة من الشعر، أو رواية أو مسرحية أو ما شئت، وعندئذ تكون له ضوابط يمكن على أساسها أن يناقش من الآخرين قبولا ورفضا.
كل هذه الفوارق تسقط من حسابنا، وتنتهي باللغة في حياتنا الثقافية إلى موقف قد يخلو فيه الكلام من أي معنى يتلقاه المتلقي، ومع ذلك فلا المتكلم يدرك ذلك ولا المتلقي يعرف كيف يكون على حذر - وخلاصة ما ينتج لنا عن ذلك كله هي أن اللغة التي من شأنها - إذا أحسن استخدامها - أن تنير الطريق إلى معرفة صحيحة بالعالم، قد أصبحت في حالات كثيرة وسيلة إظلام يلفنا بضبابه ونحن على وهم بأننا في مسقط النور!
ونكتفي من «البذور» بالبذور الخمس التي ذكرناها، مما كان سببا في أن تصاب شجرة الثقافة بشيء من العقم فلا تثمر، أو هي تثمر حشفا من حيث أردنا لها أن تنتج أطيب الثمر، فقد جعلنا البذرة الأولى هوية تحطمت عناصرها حتى لقد فقد الفرد انتماءه، وجعلنا البذرة الثانية فهما مخطئا للإنسان، بحيث أخرجناه من مدار العقل لنضعه على أفلاك اللامعقول، فتقطعت وسائل التفاهم بين الناس.
وكانت البذرة الثالثة «ثقافة» بلا غاية يتغياها المبدعون، كل بوسيطه الخاص بميدانه، فانعكس هذا التيه على المستقبلين، وكانت البذرة الرابعة عن «التراث»، فقد جعلناه هما لنا بالليل ومشغلة لنا بالنهار؛ لأننا أخطأنا تحديد البؤرة التي يجب أن يتجه إليها البصر، وأما البذرة الخامسة فهي طريقة استخدامنا للغة في حياتنا الفكرية؛ إذ تحولت على أيدينا أداة لا تؤدي، وكان الأساس فيها أن تكون أداة توصيل من متكلم إلى سامع، أو من كاتب إلى قارئ - ومن هذه البذور الخمس تفرعت جذور:
فكان أول ما تفرع عنها أن العملية «الفكرية» في أي ميدان من ميادينها، لم تجد الغذاء الصحي الذي يغذيها فتنمو وتنتج، وإذا كانت مقومات الحياة الثقافية أربعة أساسية: دين وفكر وأدب وفن، فإن الفكر في حياتنا هو أضعف الأربعة، بلا نزاع؛ فقد تجد بين الناتج المتصل بالدين أو الناتج الأدبي ما يستحق النظر، وقد ترى في حصاد الإبداع الفني - تشكيلا وتعبيرا - ما هو جدير بالعرض وبالوقوف عنده كثيرا أو قليلا، أما جانب الفكر الخالص، الذي يستهدف تنظير الحياة العملية، فقلما تعثر له على أثر واحد تعرضه على الناس وأنت مزهو بأعلام أمتك، لقد حدث لكاتب هذه السطور مرتين أن طلبت منه هيئات دولية وجامعية، أن يرشدها إلى ثمار «فكرية» من محصولنا، لتترجم إلى لغات أخرى فيقرؤها الراغبون في المستويات العليا من المعالجات النظرية لمشكلات هذا العصر، فلم يجد ما يقدمه اللهم إلا نتفا يجمعها من هنا ومن هناك، لا تنفع أحدا ولا تشفع لأحد، لماذا؟ لأن الغالب فيما نعددهم من أعلامنا «مفكرين» أن يكونوا أحد رجلين: فإما رجل أحب الماضي فجعل فكره عرضا لروائع السلف، وإما رجل يميل إلى ثقافة الغرب قديمه أو حديثه، فيعرضه كذلك عرضا يشيد به أو ينقده من بعض جوانبه، وإننا لنرى في كلتا الحالتين عملا مفيدا نحمد الله عليه ونثني على من قاموا به؛ لأنه قدم إلينا زادا نقتات عليه، لكن ذلك كله شيء، ومواجهة المشكلات الكبرى في حياتنا مواجهة مباشرة بالتحليل المستقل، وبالنظر النافذ، وبالوصول إلى نتائج تستحق التقدير والنظر شيء آخر.
ولا عجب أن رأينا حياتنا الفكرية تخلو خلوا واضحا من الناقد للفكر، فنقد الفكر شيء يختلف عن نقد الأدب والفن، وليس كل هذا النقد للأفكار مقصورا على مراجعة «المضمون» الفكري، بحيث نصفه بالصواب حينا وبالخطأ حينا، وإلا فمثل هذا النقد المضموني موجود بيننا، فلن يعدم المفكر السياسي، أو الاقتصادي، أو التربوي، أوما شئت من ميادين النظر، أن يجد من يراجعه ليقول له: لقد أصبت أو أخطأت في كذا وكيت، ولكن الذي يغيب عنا غيابا شبه تام، هو أن هذا النقد المضموني لا يجدي كثيرا إذا لم يتعمق الناقد عمله النقدي، ليصل إلى هياكل الأفكار التي عليها بني المضمون المعين، وقد تسأل: وما قيمة تلك الهياكل ما دمت على صواب في المضمون المعد للتطبيق؟ والجواب هو أن المضمون المركب على هيكل نظري متشقق الركائز والأركان، قد يبدو صحيحا في مواقف عملية معينة، وفجأة يظهر لنا بطلانه حين يفاجئنا موقف جديد لم نكن قد عهدناه، وانظر إلى مراحل التاريخ الفكري تجد أن الأئمة العمالقة كانوا يسدلون ستارا على عصر فكري لم يعد صالحا، ليرفعوا ستارا آخر عن عصر فكري جديد، تجد أنه لم يكن ما يعنيهم بالدرجة الأولى خطأ في مضمونات معينة وصوابا في مضمونات أخرى، بل الذي كان يعنيهم هو «المناهج» التي تستخدم في عمليات التفكير، فالمنهج المعين قد يظل قرونا كثيرة وهو محسوب في أنظار العلماء على أنه المنهج الصحيح، بل على أنه المنهج الوحيد، حتى إذا ما تطورت بالناس أوضاع الحياة، بدت لهم مواقف جديدة لا تنفع فيها المناهج المعروفة، وهنا يظهر العملاق الذي يتفتق ذهنه عن منهج جديد للنظر، يصلح لمعالجة الموقف الجديد، فيكون ذلك إيذانا بدخول التاريخ الفكري عصرا جديدا: ومن هؤلاء العمالقة الفاتحين للعصور الفكرية الجديدة، سقراط قديما، وديكارت في النهضة الأوروبية، وأينشتين في عصرنا القائم، وإذا كنت أعيب على حياتنا الفكرية خلوها تقريبا من «ناقد الفكر» بهذا المعنى الذي بيناه، فلست أطمع في أن يظهر منا من يقيم منهجا جديدا لعصر جديد بالنسبة إلى العالم أجمع، بل كل ما أطمع فيه هو أن أجد الناقد الفكري الذي يحث قومه على متابعة المنهج الذي هو محور الحياة الفكرية - علما وغير علم - في عالم اليوم، وبغير هذا التنبه إلى «الهيكل» الأساسي لعمليات التفكير، سنظل يقاطع بعضنا بعضا، ويعترك بعضنا مع بعض، على مضمونات فكرية معينة، يقول أحدنا إنها صحيحة، ويزعم آخر أنها باطلة، مع بقاء كلا الرجلين على هيكل فكري ذهب زمانه وهو لا يدري.
وما دام أساس العملية الفكرية منهارا، فلا أمل في أن يقام لنا في دنيا الفكر النظري بناء سليم، وحسبك أن تراجع أمثلة عملية من مجالات الفكر في أي ميدان تختاره، لترى كم هي مزالق الخطأ التي تنزلق عليها إلى الباطل عن غير وعي منا: فنستخدم أسماء في بحوثنا «العلمية» (أو هكذا يسميها) لا تحديد لمعانيها فتخرج لنا أي نتيجة تميل بنا أهواؤنا إلى تخريجها، ونستدل نتائج من غير مقدماتها، ونحيل مسببات إلى غير أسبابها، ونخلط الفكرة المعينة مع أضدادها، وغير ذلك من ضروب الفكر الغامض، وكل ذلك يحدث ونظل على وهم بأننا نقدم أعمالا «علمية»، ثم نتعجب من ذلك حين نرى معاركنا حول المفاهيم السياسية خاوية أو كالخاوية، أو نرى فكرة اقتصادية نتحمس لها اليوم ثم ننقضها غدا مستنكرين لها هازئين بها، أو نقيم إصلاحا في التعليم على أساس معين هذا العام، ليأتي العام الذي يليه بمن يجعل من ذلك الأساس سخريته وسخرية الجمهور معه، وهكذا إلى غير نهاية.
Unknown page