أردت أن أرى ماذا يقول هذا العقل الكبير وهو في عشرينيات عمره، فراجعت الفهرس التحليلي للكاتب؛ لأختار موضعا واحدا أو موضعين، لعلي أذوق بحسوة واحدة طعم الكتاب، فكان أول ما وقعت عليه مما كتبه السنهوري الشاب في عامه الثامن والعشرين، مذكرة عن الشريعة والعقل، وجدتها تلتئم مع ما عرضته من رأي في معنى النضج العقلي، وهاك ما كتبه في مذكرته تلك:
أذكر أنه نسب للنبي
صلى الله عليه وسلم
قوله: إن الأحكام الشرعية وافقت العقل عدا ما في هذا القول الحكيم من التسامح الذي لا أعلم أن دينا وصل إليه، ومن السعة التي تجعل الدين الإسلامي دين كل زمان ومكان، ألاحظ أن العقل الذي يقصده النبي
صلى الله عليه وسلم
في قوله هو في نظري ذلك العقل الذي يتطور مع الزمن ويتكيف مع المؤثرات المختلفة، ولا شك في أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يأت بأحكام تتناقض مع العقل في زمنه أو توقع إمكان تناقضها في المستقبل، بل إنه نظر إلى إمكان تطور العقل، فأوجد في الأحكام التي أتى بها مرونة وجعلها صالحة لكل زمن تطبق فيه، وبعد فهل العقل البشري استقر على حالة؟ ومن كان ينكر على أرسطو - وهو من أكبر العقول في زمنه - قوله إن الرق ضروري للمدينة؟! وتعليقا على هذا الذي أثبته السنهوري الشاب في مذكراته، أود أن أشير إلى أصل وما يتفرع عن ذلك الأصل؛ فأما الأصل فهو أنني أخشى أن يكون السنهوري في تلك السن الباكرة، قد فاتته التفرقة بين جانبين عند تصوره لحقيقة العقل، وهي تفرقة أظن أنها كذلك قد فات الكاتب الفاضل الذي بعث إلي برسالته إدراكها، وأول هذين الجانبين من حقيقة العقل هو الجهاز الفطري، الذي جبل في طبيعة الإنسان منذ كان إنسانا، وهو جهاز لم يقل أحد إنه تغير أو تطور، وقوامه طريقة إدراكية بين طرق أخرى عن طريقها يعرف الإنسان ما يعرفه عن نفسه وعما حوله، والذي يميز النمط العقلي من غيره هو الحركة الاستدلالية، وأرجوك أن تتمهل هنا قليلا حتى تحكم قبضتك على هذا الفارق الهام؛ فالعقل لا يدرك ما يدركه بطريق مباشر، كما تفعل العاطفة أو كما تفعل الغرائز، بل طريقته هي أن يستدل نتيجة من مقدمة أو من شواهد تقدمها إليه الحواس.
ومعنى ذلك هو أن العقل حركة انتقالية من طرف معلوم إلى طرف أصبح معلوما بعد أن كان مجهولا؛ ولهذه الحركة الانتقالية قوانينها التي هي جزء من فطرة الإنسان، إذا أحسن استعمالها والتزامها أيقن أن النتيجة التي وصل إليها صحيحة، ما دام موقنا بصحة الشواهد أو المقدمات التي بدأ منها؟ وذلك هو معنى العقل من حيث هو جهاز إدراكي، وهو بهذا المعنى لا يتطور ولا ينمو، اللهم إلا إذا أراد الله للإنسان أن يكون كائنا آخر غير الإنسان المعروف.
وأما الجانب الثاني من جانبي العقل فهو خاص بالمادة الفكرية، التي يعمل فيها ذلك الجهاز الذي ذكرناه، فشأنه في ذلك شأن طاحونة معدة لطحن الغلال، فلا بد من غلال فيها لتتم عملية الطحن، وما يقابل الغلال في العملية العقلية هو معطيات الحواس والأفكار، وواضح أنه كلما كثر المحصول الفكري وجد جهاز العقل فرصة أوسع ليؤدي عمليته الاستدلالية بصورة أرقى وأكمل، فأقل ما يقال في هذا الصدد هو أن جهاز العقل يتمكن من إجراء مقارنات بين أفكار مختلفة، فيستدل من المقارنات ماذا يرجح فكرة منها على فكرة، ومن هنا رأينا الأسفار بين بلدان العالم تزيد المسافر قدرة على معرفة أفكاره التي بثت فيه وهو في بلده، ومدى نصيبها من الحق، لقد صاغ هذه الحقيقة صياغة جميلة الشاعر الإنجليزي المعروف رديارد كبلنج صاحب القول المشهور: «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا.» قال موجها حديثه إلى مواطنيه الإنجليز ما معناه: ماذا عساك تعلم عن إنجلترا إذا كنت لا تعرف إلا إنجلترا؟ أي أن الإنسان لا يعرف نفسه ولا وطنه ولا ثقافته حق المعرفة إلا إذا قارنها بسواها؟ وهكذا ترى أن غزارة الجانب المعرفي عند الإنسان، من حيث كثرة الأفكار والخبرات كثرة عددية من جهة، وارتفاعا في مستواها من جهة أخرى، تمكن الجهاز العقلي من إدراك أوسع أفقا وأبعد أعماقا، فهنالك فرق فيما تحصله من معلومات ومعارف وعلوم وخبرات، بين أن تقف بها عند السطح المرئي المسموع، وبين أن تستخلص من ذلك السطح ما قد ينتج عنه من قوانين عامة ومن مبادئ أعم، وذلك هو ما نعنيه بارتفاع المستوى الفكري وعمق أغواره، وهذا الجانب التحصيلي من المواد الفكرية، هو الجانب العقلي الذي يتطور ويعلو ويعمق، وبكلمة واحدة نقول: إنه هو الجانب الذي ينضج نضجا ليس له حد نهائي يقف عنده، كذلك الحد الذي رآه الكاتب الفاضل صاحب الرسالة، والذي أراد أن يقيس عليه النضج العقلي ليفهم حقيقته.
Unknown page