على أننا لا بد، من أجل الأمانة العلمية، أن نقول إن الغزالي يقصر اليقين على ما يسميه «بالأولويات» العقلية، وما يستبدل منها (وشاركه ديكارت في ذلك، بعده بنحو ستة قرون) وله الحق في ذلك، إلا أننا نوسع مجال الثقة العلمية هذه لتشمل كذلك العلوم التي وإن لم تكن متولدة من «أوليات» عقلية، فهي مقامة على أساس المعطيات الحسية، التي يوضع لضبطها وضمان صدقها مناهج خاصة، وإلا فإذا نحن اقتصرنا على أوليات العقل المجبولة في فطرة الإنسان، وأبعدنا الحواس وما تقدمه إلينا ضاعت علينا العلوم الطبيعية بقضها وقضيضها.
وخامسا وأخيرا:
نذكر ذلك الحوار الذي أجراه الغزالي، وكأنما قد بادرته به حواسه؛ إذ جعلها تعاتبه سائلة: لقد شككت في صدق ما قدمته إليك بحجة أنك حين عرضته على حاكم العقل، قرر لك أن ما قدمه إليك العقل، من معرفة قبلتها وكأنه يقين لا يأتيه باطل، ألا يجوز أن تحتكم إلى ما هو فوق العقل فيحكم لك على العلوم العقلية أنها هي الأخرى باطلة؟ وها هنا يروي لنا الإمام الغزالي كيف أوقعته محاجة الحواس هذه في حيرة اشتدت به حتى أنزلت به المرض، ولقد دام معه ذلك المرض - فيما ينبئنا شهرين - ولب الأزمة التي وقع فيها، بناء على ما تخيل أن حواسه قد اعترضت به عليه، هي أنه إذا زعم قيام مبدأ أعلى من العقل، على أساسه ينظر في الحقائق العقلية أقابلة للشك هي أم هي فوق الشك؟ فلا بد له من إقامة دليل على زعمه ذاك، لكن كل دليل يتحتم عليه أن يقام على أوليات العقل، فكأننا ندور في دائرة مفرغة لأننا بمثابة من يريد إقامة الدليل بالعقل على بطلان العقل! تلك كانت أزمته حتى شفاه الله، فهداه إلى أن من الحقائق ما لا يقام على دليل، بل يجيء يقينه «بنور يقذفه الله» تعالى في الصدر. وبهذا المصدر الرابع اكتملت للغزالي وسائل المعرفة جميعا أدناها معرفة مصدرها رواية الرواة، وأعلاها علم مباشر يجيء بنور يهتدي به العارف، وتلك هي معرفة المتصوفة، وبين الطرفين تقع العلوم العقلية سواء منها ما بني على معطيات الحواس، على سبيل الاحتمال، وما بني منها على أوليات العقل على سبيل اليقين.
الشجرة المباركة
الصلة بين «العلم» و«النور» شيء معروف مألوف، حتى لنسمع عبارة «العلم نور» شائعة على الألسنة بين عامة الناس فضلا عن خاصتهم، وإنه لقول صادق إلى آخر حدود الصدق برغم ما فيه من «مجاز»؛ فالنور يقشع الظلام عن الأشياء فتراها الأبصار بعد أن لم تكن رأتها وهي ملتفة بظلامها، وكذلك يفعل «العلم» بشيء ما لأنه يتيح لصاحبه أن يرى من تفصيلات ذلك الشيء ومن حقائق طبيعته، ما يتيح له أن يستخدمه وهو آمن فلا فرق - إذن - بين «نور» يبين معالم الطريق و«علم» يبين معالم الأشياء، فنطوعها كيف شئنا.
وبرغم هذا الوضوح الشديد في وجه الشبه بين «العلم» و«النور»، وبرغم دوران هذا الشبه على ألسنة الناس عامتهم وخاصتهم على السواء، فقد فوجئت بتلك العلاقة بين «النور» و«العلم»، كأنما وجدتني أمام فكرة جديدة لا عهد لي بها، بل ولا عهد لأحد من الناس بها حين قرأت - لأول مرة - كتاب الإمام أبي حامد الغزالي «مشكاة الأنوار»، وكان ذلك نحو سنة 1960م «فيما أذكر»، حين صدر محققا ومقدما له بمقدمة طويلة للمرحوم الأستاذ الدكتور «أبو العلا عفيفي»، وهو كتاب صغير لم يكمل مائة صفحة من القطع الكبير، بما في ذلك مقدمة تحليلية مستفيضة لمحقق النص الدكتور أبي العلا عفيفي، وموضوع الكتاب هو شرح آية النور، ولقد كانت المفاجأة الكبرى التي أيقظتني وفتحت أمامي أفقا واسعا، ما زال يزداد معي اتساعا إلى يومي هذا، هي أن رأيت شرح الغزالي للآية الكريمة قائما كله على أساس أن «النور» الذي تدور حوله الآية الكريمة هو «الإدراك»، أو قل إنه هو «العلم»، ولما كانت عملية «الإدراك» هذه قد قال فيها علم النفس الحديث والمعاصر وأفاض، كما قالت فيها الفلسفة الحديثة والمعاصرة وأفاضت؛ وذلك لاهتمام الباحثين اهتماما متزايدا بتحليل العلاقة بين الذات المدركة من ناحية والموضوع المدرك من ناحية أخرى، أقول إنه لما كانت عملية «الإدراك» قد انصبت عليها أضواء شديدة، فقد أصبح متاحا للدارسين منا أن يتوسعوا في الأساس الذي أقام عليه الغزالي شرحه لآية النور، وإن كاتب هذه السطور ليقول صدقا إذا قال إنه كثير العودة إلى هذه الآية الكريمة، وكأنه يجد في كل مرة معنى مضافا إلى ما كان قد انتهى إليه، فمعينها لا ينضب بعد أن أمسكنا بالمفتاح الذي قدمه إلينا الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه «مشكاة الأنوار»، إلا أنه إذا كان الغزالي قد فتح من الباب مصراعا فقد فتحنا منه مصراعين، والفضل كل الفضل لمن شق الطريق ليسير وراءه التابعون، وها هي ذي صورة متكاملة - في إيجاز شديد - لما خرج به كاتب هذه السطور من آية النور مهتديا بهدي الإمام.
تقول الآية الكريمة:
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم
صدق الله العظيم. (1)
أما «المشكاة» التي هي كوة في الجدار، فترمز هنا إلى الحواس الخمس: البصر، والسمع، والشم، والذوق، واللمس - هذا ما يذكره الغزالي - فنضيف إليها الحواس التي حددتها الأبحاث العلمية في هذا المجال؛ كحاسة الاتجاه التي يدرك بها الحاس في أي اتجاه يسير، حتى ولو أغمض عينيه وسد أذنيه، وكالحاسة العضلية التي يدرك بها الحاس وزن الأجسام التي توضع على جزء من جسده، فيميز بينها - على التقريب - خفة وثقلا، وهكذا بل وقد نضيف إلى هذه الحواس «الظاهرة» حواس أخرى «باطنة»، وجميع هذه الحواس هي الخطوة الأولى من أية عملية إدراكية؛ إذ هي حلقة الوصل بين الكائن الحاس وما يحيط به من أشياء ، وواضح أن النبات والحيوان يشارك الإنسان في هذه الخطوة الإدراكية الأولى؛ إذ هي التي تكفل للكائن الحي إقامة حياته بما شاء له الله سبحانه وتعالى أن يقيم؛ فالنبات وإن لم يكن له تلك الحواس التي ذكرناها للإنسان، فله وسائله التي يتحسس بها تربة الأرض ليمتص غذاءه، ويتحسس الهواء ليأخذ منه شهيقا ويرد إليه زفيرا، ويتحسس أشعة الشمس والماء ليرتوي، وهذا كله ضرب من «الإدراك» لما يحيط به، وأما الحيوان فمشاركته للإنسان في هذه المرحلة الأولى أوضح من أن يشار إليها؛ لأنه - كالإنسان - ذو بصر وسمع ... إلخ. ففي «المشكاة» إذن تتجمع المؤثرات الوافدة إلى الكائن الحي - إنسانا وغير إنسان - لتكون وسيلته إلى إدراك ما حوله. (2)
Unknown page