وبقيت النقطة الرابعة، وهي بدورها دعوة إلى الوضوح الفكري؛ إذ هي تنبيه إلى حالات لا حصر لها في دنيا التفاهم، توهمنا واحدية «الاسم» فيها، بواحدية الواقع المشار إليه بذلك الاسم الواحد، فنقول - مثلا - «لغة» ونظن أننا نشير إلى كائن موحد بسيط، ونكاد ننسى أن اللفظة الواحدة من ملايين المفردات التي تدخل في اللغة الواحدة، هي في حد ذاتها «قبيلة» من حالات يعد أفرادها بالملايين: فهي آنا منطوقة، وعندئذ تكون كائنا صوتيا، ويكون العضو الذي يتلقاها هو «الأذن»، ولك أن تتخيل كم يختلف بها النطق عند الناطقين، ثم هي آنا آخر مكتوبة، وعندئذ تكون كائنا ضوئيا تتلقاه العين، ولك أن تتخيل هنا كذلك، على كم وجه يفهم قارئوها ما تحمله إليهم من معنى، هذا إذا كان لها قارئون؛ لأنها قد تبقى على صفحتها جثة مدفونة في كتاب، إلى أن تتبدل الأرض غير الأرض والسماء.
وإذا كانت كل نقطة من النقاط الأربع، وهي التي عددناها أركانا من أركان الحياة العقلية في المثقف الواحد، وفي جملة الحياة الثقافية، هي غائبة أو كالغائبة من حياتنا، فالذي هو أشد فيها غيبة ذلك المناخ الثقافي العام، الذي ينسج من خيوط وخيوط سواها من العوامل الثقافية الأخرى، فذلك المناخ العام - إذا وجد - تحققت لنا به رؤية مشتركة، أو قل حساسية مشتركة، نحس بها إحساسا مباشرا صحة الصحيح وخطأ المخطئ، فيجتمع معظمنا على أحكام واحدة، فيما نقبله وما نرفضه، لكن انظر باحثا عن مثل هذه الحساسية المشتركة في حياتنا، تجدها معدومة أو كالمعدومة، فزيد يرى يمينا، وخالد يرى يسارا، وعمرو ينظر وراءه، وأسامة ينظر أمامه، ولو كنا أمة ولدت بالأمس لقلنا: لا علينا، فغدا سنتعلم كيف يسودنا رأي عام ووجدان عام وهدف عام، لكننا أمة عاشت من الدهر ما عاشت، ولقد عاشته موحدة القلوب في معظم عصورها، بدليل أنها أقامت حضارات وثقافات، وما كانت الحضارة مما قد أقامته لتكون حضارة ولا الثقافة ثقافة إذا لم تكن موحدة النظر بوجه من الوجوه، إذن لا بد أن يكون قد طرأ عليها في هذا العصر طارئ جديد، فكك عراها، وفتت أجزاءها ففقدت وحدتها الفعلية والوجدانية، وفقدت - بالتالي - قدرتها على الإبداع، أتدري ما هو ذلك الطارئ الذي طرأ، إنه هو اصطدامها بحضارة جعلت محورها «العلم» و«الصناعة» أو التصنيع، فجاءت حياتها الثقافية - أعني الثقافية المصاحبة لهذه الحضارة الجديدة - متناغمة معها روحا واتجاها، ولم نكن نحن نألف قبل الآن أن يكون العلم وأجهزته، هو المدار، وهو الهدف، وهو قوائم البناء، والذي ألفناه هو أن تكون «الكلمة» وليس «الآلة» هي ميدان القول والعمل معا، ولم يكن في طبيعة البشر ما يحول بيننا وبين أن نلبس لهذه الحضارة الجديدة لبوسها، من اهتمام بالعلم تحصيلا وإبداعا وتطبيقا، ومن تقبل لما يترتب عليه من منهج تجريبي علمي ننتهجه كلما نظرنا في أمر من أمورنا، خصوصا وتاريخنا يشهد باستعدادنا للتفكير على منطق العقل، الذي هو عماد الحياة العلمية، لكن شيئا في تاريخنا الحديث حال دون ذلك، ولعل أهم عناصره هو أن تلك الحضارة العلمية جاءتنا في صحبة مستعمر، فقاومناه ورفضنا ما اصطحب من ثقافة، ولو شاء الله لنا الهدى، لفاوضناه في شخصه وسلبناه ما جاء في صحبته، فربما كان مكتوبا لنا في تلك الحالة أن نسبقه في مضماره، وهكذا فعلت اليابان، لكننا لم نفعله، ولا أدري إذا كان عامل آخر له ثقله وخطره قد أضيف إلى العامل الأول، فزهدنا في الحضارة العلمية، إلا أن نتعلم علومها حفظا باللسان، في معاهدنا وجامعاتنا، وذلك العامل الثاني هو أن معارفنا التقليدية كانت هي البضاعة الرابحة عند كثيرين منا، فأصبح من أهم المهام عند هؤلاء، أن يدافعوا عن بضاعتهم
ولقد تحداني من تحدى، قائلا: هات برهانك على «اللاعلمية» المزعومة في وقفتنا الثقافية، ما هي المزالق التي ترى أننا ننزلق بها في متاهات الخطأ والغموض في حياتنا الفكرية؟ قلت له مجيبا: سأسوق إليك أمثلة عفو الخاطر، لأبين لك بها كم نقع في غموض الفكر ونحن لا نشعر، ولا تؤاخذني إذا رأيتني أسوق أمثلة قد تبدو في ظاهرها تافهة، ولكنها دالة على ما نريد التدليل عليه.
فأول تلك المزالق، أننا قد ننظر إلى عدة أفكار أدمجت كلها في جملة واحدة، فنظن أننا ما دمنا أمام جملة واحدة، فنحن بالتالي أمام فكرة واحدة، وعندئذ نستبيح أن نصفها كلها بالصواب، أو أن نصفها كلها بالخطأ، فافرض أن قائلا قال عن شباب أمتنا هذه العبارة: «إن الشباب لضعفه ويأسه، قد فقد كثيرا من روحه المعنوية، فاحتمى بالتطرف الفكري.» أليس مألوفا بيننا أن نصف مثل هذا القول إما بصحة وإما ببطلان، وكأنه يحكي عن حقيقة واحدة تقبل كلها أو ترفض كلها؟ لكن انظر عن قرب إلى هذا القول كم حقيقة جاءته في عبارته، بحيث لا تكون الصحة والخطأ في إحداها، متوقفة على الصحة والخطأ في الأخرى، فكل منها من حيث الصحة والخطأ مستقل وحده؛ ففي هذا القول الواحد المزاعم الآتية من قائله: (1)
الشباب ضعيف. (2)
الشباب يائس. (3)
فقد الشباب روحه المعنوية. (4)
لجأ الشباب إلى التطرف الفكري.
وأرجوك أيها القارئ أن تلاحظ مرة أخرى أن هذه الوحدات المزعومة كل منها مستقل بصوابه أو خطئه؛ إذ قد يكون الشباب ضعيفا لكنه غير يائس، وقد يكون ضعيفا في روحه المعنوية، لكنه لم يتطرف في فكره، وهكذا، إذن فلو أراد قارئ هذه العبارة أن يحكم عليها بما يضمن له الوضوح والدقة، وجب أن يحكم على أجزائها جزءا جزءا، قبل أن يصدر حكما واحدا يشملها جميعا في نفس واحد.
هذا مثل تبدو عليه بساطة قد تصل إلى حد التفاهة، أليس كذلك؟ ولكن ماذا تقول إذا أنبأتك بأن تيارات التطرف الديني وغير الديني، التي تغمرنا اليوم بموجها وتصم آذاننا بهديرها، وهي أمثلة مكبرة لهذا المثل البسيط التافه، فسر المتطرف هو أنه يحكم على الآخرين جملة واحدة بالبطلان، وكأن هؤلاء الآخرين قوامهم كله جملة واحدة بسيطة مكونة من مبتدأ وخبر! ومن هذا القبيل نفسه أن يحكم ناقد على كاتب أو على شاعر، بحكم مبتسر متسرع، وكأن ذلك الكاتب قد كتب سطرا واحدا قليل الكلمات، وكأن هذا الشاعر قد نظم بيتا واحدا من الشعر، وهل أنسى أستاذا فاضلا أصدر حكمه على جماعة من كتابنا، بأن «كل» ما كتبوه ضلال وإضلال! ولو وقف عند صفة «الضلال» لأمكن الافتراض بأن الرجل قد خصص خمسين عاما من عمره، لقراءة ما كتبه هؤلاء، صفحة صفحة، وجملة جملة، فوجد ما يبرر له هذا الحكم الجارف، إلا أنه أضاف صفة «الإضلال»، أي أن هؤلاء الكتاب قد تعمدوا أن يضللوا قراءهم بما يكتبون، وذلك أمر يتصل بالنوايا، فكيف كشف فضيلته عن نواياه ليحكم، إنني لا أشك لحظة واحدة في «فضل» فضيلته، ولكنني أقول إنه المناخ الثقافي العام الذي نتنفس هواءه الفاسد، قد زكم أنوفنا، فأصبحنا نحكم على الأفكار، والمذاهب، والشعوب، والحضارات، والثقافات، «بالجملة» فنتورط في خطأ محتوم.
Unknown page