موطن الداء
المسئول الكبير، الذكي اللامع، إذ كنا نسمر معا سمرا ظاهره انسياب الخواطر، انسيابا لا يستهدف غاية إلا حلاوة السمر، وباطنه هدف مضمر، هو البحث عن أسس ثابتة يقوم عليها إصلاح التعليم، فسألني الصديق الكريم سؤالا، جاء في سياق الحديث وكأنه عابر، فقال: إن اعتقادنا اليوم، هو أننا قد فرغنا من إرساء الدعائم لخطة اقتصادية طويلة المدى، ونريد الآن أن نتجه بمثل ذلك الجهد المركز، نحو أن نرسي دعائم البناء التعليمي، وقد يقتضي ذلك تغييرا من الجذور في «مقررات» الدراسة على اختلاف مراحلها، فماذا ترى؟ قلت: قد تكون «المقررات» بحاجة إلى مثل ذلك التغيير، لكي تتكافأ مع ما تغيرت به الدنيا، إلا أني على عقيدة راسخة، بأن «مقررات» تذهب، وأخرى تجيء، لن يغير وحده من مواطن الداء إلا قليلا.
وأما الذي نرجح له أن يحدث التغيير، فهو اكتساب الدارسين للنظرة العلمية، بأن يستخلصوها مما درسوه من «مقررات»، فما من «مقرر دراسي» في مدرسة، أو معهد، أو جامعة، إلا وقد سيق في سياق تنتظم فيه الروابط بين الأسباب ومسبباتها، فلو أننا عنينا بأن يتشرب الدارس لمقرر معين، ما قد سرى في أوصاله من منهج السير، خرج المتخرج آخر الأمر بشيئين: مادة المقرر المدروس، ومنهاج «النظرة العلمية» معا. فإذا كانت «المقررات» تعد الدارسين لضروب العمل المهني والحرفي، فإن «النظرة العلمية» التي يتشربها، تخرجه «إنسانا» يساير عصره الذي خلق ليعيش فيه.
إننا إذ ننظر إلى من أخرجتهم مراحل التعليم عندنا - وهم في ميادين العمل - أطباء، ومهندسين، ورجال قانون، ورجال اقتصاد، ومعلمين، وعلميين في شتى فروع العلم، لا يسعنا إلا الشهادة لهم بالقدرة - بعد سنوات قليلة من التدريب والخبرة - فهؤلاء هم بناة العمران في مصر، وفي كل ركن من أركان الوطن العربي، لكن أخرج بهؤلاء القادرين أنفسهم من دوائر تخصصاتهم، ليواجهوا مع جمهور الناس مشكلات الحياة العامة، ثقافية وسياسية واجتماعية؛ تجد كثرة منهم ينظرون بالمنظار نفسه الذي ينظر به من لم يظفر بحظ من تعليم المدارس والجامعات، فكلاهما على حد سواء لا يجد في كيانه البشري ما يصده عن تصديق الخرافة، وإذا قلت «الخرافة» فقد قلت رد الظواهر إلى غير أسبابها الحقيقية، ولكي أبين الفرق بين الحالتين، أروي هذه الحادثة: فقد أراد هاو من هواة التسلق إلى قمم الجبال المنيعة، أن يتسلق جبلا في إسبانيا، فاستعان بدليل من أهل المنطقة ليصحبه، فلما بلغ بهما الصعود نقطة مرتفعة، جلسا للراحة والطعام، وأخرج الرحالة عددا من حبات البطاطس وأشعل لها الموقد لتنضج، ووصل الماء في إناء الطهو إلى درجة الغليان، ولبث يغلي فترة طويلة من الزمن، لكن البطاطس لم تنضج، ودهش الرجلان كلاهما: لماذا لم يؤد الماء في غليانه إلى إنضاج البطاطس؟ فأما الدليل في جهالته، فلم يتردد في اعتقاده بأن روحا شريرة قد حالت دون ذلك، وأما الرحالة في استنارته العلمية، فقد تذكر على الفور أن درجة غليان الماء تقل كلما ارتفعنا به عن مستوى سطح البحر، فهو يغلي عند سطح البحر في حرارة مقدارها مائة، وأما على سفوح الجبال العالية فقد تقل درجة الغليان بحسب درجة الارتفاع، فربما غلى الماء بدرجة ثلاثين أو أربعين، وفي هذه الحالة لا يكون حارا بالقدر الذي ينضج البطاطس، برغم أنه يغلي، فلقد كان الرحالة ذا «نظرة علمية»، وهو يربط النتائج بأسبابها، وأما مرافقه من أهل الإقليم فقد لجأ إلى الخرافة في التعليل، ومرة أخرى أقول إن تعريف ما نطلق عليه اسم الخرافة، هو: «رد الظواهر إلى غير أسبابها»، فالنظرة العلمية، والنظرة الخرافية، كلتاهما تحاولان تعليل الحوادث، لكن شتان بين تعليل وتعليل.
إنه لمن أيسر اليسر أن تلقن الدارسين «مقررا» بعينه، وضعت مادته في كتاب، ثم يلخص ذلك الكتاب المطول في كتاب يعرض في الأسواق، يقتصر على ذكر «النقط» أو رءوس الموضوعات، ويطلب من الدارس حفظها عن ظهر قلب، ويعيدها في ذلك الهيكل العظمي على ورقة الامتحان، وواضح أن «النقط» التي تستخلص من «المقرر» ليحفظها الدارس، قد خلت خلوا تاما من الروابط المنطقية، التي تربط كل نقطة منها بسياقها الذي يفسرها ويعللها، كما خلت في الوقت نفسه من الروابط التي تربطها بأخواتها، ليتكون من مجموعها كيان فكري واحد، فيتخرج الدارس وفي جعبته «نقط» مبعثرة، وليس في عقله «منهج» للنظرة العلمية، أيا كان الموضوع الذي ينظر إليه ابتغاء تعليله ووضعه في سياقه ليفهم.
نعم إن دراسة «المقررات» هي أيسر اليسر، وأما العسير حقا، فهو أن تأخذ بأيدي الدارسين ليستخلصوا من تلك المقررات منهاجها، وإذا كان تغيير المقررات معدودا، وكأنه تناول لمشكلة التعليم من «جذورها»، فإنني أدعو إلى ما هو قبل الجذور، وهي البذور التي نبذر بها في عقول الدارسين نظرة علمية، فقد تنسى المقررات المدروسة فلا يبقى منها عند الدارس حرف واحد، وأما النظرة العلمية المستفادة، فهي تدوم سمة من سمات المتعلم ما دام حيا، تتغير الموضوعات التي تنشأ له في طريق حياته، فيعالجها بما قد ثبت في نفسه ورسخ، وهو الطريقة العلمية في الفكر والعمل.
فإذا كنا قد نجحنا إلى حد قد نختلف على مداه، في أن تخرج لنا «المقررات» الدراسية، من يقومون ببناء حياتنا المادية والعملية، من منشآت هندسية، ومستشفيات، ومعاهد دراسية، ومحاكم للقضاء، وجهاز كامل للدولة، وللإعلام، ولغير ذلك من مسالك الحياة، فيقيني هو أننا لم نوفق في تزويد أنفسنا بالشطر الثاني، الذي هو - كما أسلفت القول - التدريب على «النظرة العلمية» في إطارها العام، في كل ما يصادفنا من مواقف ومشكلات خاصة أو عامة على حد سواء، وإذا غابت النظرة العلمية، كان حتما أن تحل محلها نظرة أخرى تنبني على ما هو أعمق جذورا في فطرة الإنسان، ألا وهي لجوء الإنسان إلى ما تمليه عليه غرائزه، وعواطفه، وانفعالاته، وسائر ما هو مزود به، بحكم طبيعته الإنسانية والحيوانية معا، من قوى تدفعه إلى كذا وتمنعه عن كيت، دون أن يكون في ذلك الدفع أو المنع سند من منطق العقل، وماذا نعني بمنطق العقل؟ إنه بكل بساطة وإيجاز، التعامل مع دنيا الأشياء، على أساس من واقع تلك الأشياء، دون أن نضيف إلى حقائقها الواقعية، أو أن نحذف منها شيئا، حتى إذا ما عرفناها على حقائقها، كان من حقنا بعد ذلك، أن نستدل الطريقة التي نستخدمها بها على النحو الذي يخدم منافعنا ويحقق أهدافنا.
وقد تسأل متعجبا: وهل هنالك بين الناس إنسان يفعل ذلك؟ هل هنالك إنسان يرى قطعة الصخر فيزعم لنفسه أنها سبيكة من ذهب؟ أو يرى قنابل الأعداء تهوي لتقتل الناس وتهدم البيوت، فيقول إنها زهور تتناثر لتنشر عطرها؟ والجواب هو: نعم، فقد تكونت النفس الإنسانية، لترى الأشياء - لا سيما في ساعات الشدة والحرج - على هواها، فهي في حالة ضعفها وخوفها ترى شيئا، فإذا انقلبت إلى قوة وثقة، رأته شيئا آخر، فكم من دجال قدم إلى ساحات القضاء ليحكم عليه بما يحكم به، عقابا له على تضليله للأبرياء، بعد أن لم يجد فيه هؤلاء الأبرياء إلا بركات وقدرات تشفي المريض، وتعيد الأسر المحطمة إلى وئامها، وترد الخاسرين إلى رواج وازدهار، إن عامة الناس أميل بحكم فطرتهم إلى أن يخلعوا على الطبيعة صفات كصفات البشر، فإذا أصابهم خير من ظاهرة طبيعية، كالمطر أو فيضان النهر، رأوا في تلك الظاهرة ما يستحق التقديس، أو رأوا شرا صبوا عليه اللعنات، إنهم يحبون أن يكونوا ممن شفت قلوبهم حتى لترى المستقبل قبل حدوثه، فهم يتذكرون حلما من أحلامهم جاءت رؤياه صادقة على المستقبل، وينسون ألف حلم رأوه ولم يتحقق منه شيء.
كثيرة جدا هي العوامل الداخلية التي تتحكم في الإنسان، فتميل به إلى رؤية الأشياء على غير واقعها، وإن شئت فانظر إلى رجلين، نشأ كل منهما في بيئة اجتماعية، أو تعليمية مختلفة عن البيئة التي نشأ فيها الآخر، واطرح عليهما سؤالا عن قيمة حضارية معينة، كتعدد الزوجات، أو التعليم المختلط بين الجنسين، أو الطريقة التي تعالج بها جثث الموتى، فعندئذ ترى ما يوجبه أحدهما وجوبا لا تردد فيه، يستنكره الآخر استنكارا يحسبه من وحي البديهة التي لا تخطئ، فقد ذكر المؤرخ اليوناني «هيرودوت» كيف أنه على سبيل المقارنة أثناء جولته في مصر وبعض البلاد الآسيوية، سأل مصريين: ماذا ترون فيمن يحرق جثث موتاهم؟ والمصريون - كما نعلم - يدفنون الموتى، فاستنكروا تلك القسوة ممن يقترفون هذا الإثم المخيف. ولما سأل أفرادا ممن يحرقون الجثث في الهند، قائلا: ماذا ترون فيمن يدفنون جثث موتاهم؟ عجبوا كيف تطاوعهم قلوبهم أن يدفنوا أحباءهم في حفر تحت الأرض. وهنالك من القبائل من يأكلون موتاهم - وبصفة خاصة جثث الآباء - عقيدة منهم بأنهم بذلك يضيفون قوة الراحلين إلى أبنائهم حتى لا تضيع سدى، وأظن أن «فرويد» في كتابه «الطوطم والتحريم» يعلل أكل الولد لجثة والده، أو حتى أكله لأبيه في حالة مرضه إذا استعصى شفاؤه، بأنه في أعماقه نوع من انتقام الابن من أبيه، لقاء ما سلبه أبوه من حرية، ولقد قرأت - فيما أذكر - لأحد الباحثين في الثقافات المختلفة، أن جماعة من إحدى القبائل آكلة الموتى، حين سئلت عما تراه فيمن يدفنون الموتى، وفيمن يحرقون الموتى، فكاد المسئولون أن يغمى عليهم من الذهول، كيف تبلغ الغلظة بقلوب أولئك أو بقلوب هؤلاء، فيفعلون تلك البشاعات بموتاهم! نعم، إن ظروف النشأة قد تعمي وتصم، فلا يرى صاحب الرأي إلا ما هو راسخ في فؤاده هو، مما دس فيه من أولياء أمره أيام النشأة الأولى، وإننا لنعاني من اختلاف الرأي في حياتنا الفكرية، لا لأي سبب آخر سوى اختلاف الظروف الدراسية التي أحاطت بهذه الجماعة منا أو بتلك، فأصبحنا إذا ما طرح موضوع للرأي، قال هؤلاء نقيض ما قاله أولئك، والموضوع واحد، والشعب واحد، وما ينفع الناس أو ما يضرهم يمكن إخضاعه للحساب الذي يتفق عليه الجميع، ذلك لو احتكموا في مشكلاتهم إلى منطق العقل، وليس للأهواء التي اختلفت باختلاف الظروف.
وأول خطوة في سبيلنا إلى تربية أطفالنا على رؤية الأشياء على حقائقها الخارجية، تمهيدا للحكم عليها حكما غير مؤسس على أوهامنا وأهوائنا؛ هي أن يتعلم أولياء الأمر في تنشئة الطفل، من والدين ومعلمين، مضافا إليهم الوسائل الإعلامية، كيف يرهفون حواس الطفل لتعمل عملها على وجه أوفى وأكمل؟ فمجرد وجود العين قد يضمن لنا أنها «تنظر» ولكنه لا يضمن لنا أن «ترى»، ومجرد وجود الأذن قد يضمن لنا أنها تسمع الصوت آتيا من مصادره، ولكنه لا يضمن لنا تركيز «الانتباه» فيما يختلف به، أو ما يتشابه فيه، صوت وصوت، وتهذيب الحواس، وإرهافها، وتدريبها، هو الوسيلة الأولى، التي تتيح للناشئ أن يجمع معلومات دقيقة وصحيحة، عما حوله وعمن حوله، ولئن كان «فرنسيس بيكون» قد صاح صيحته المدوية في أوروبا النهضة، حين قال: «العلم قوة.» قاصدا بذلك إلى لفت أنظار الناس، بأنه ليس من العلم في شيء ذلك التحصيل الذي كان رجال القرون الوسطى في أوروبا يجمعونه من الكتب ويحفظونه، ما دام عاجزا عن أن يضيف إلى دارسه «قوة» يستطيع بها أن يلجم ظواهر الطبيعة ليجعلها طوع أمره، فالتحكم في نبات الأرض نوعا ومحصولا، يحتاج إلى «علم»، والتحكم فيما يخرجه الإنسان من جوف الأرض، يحتاج إلى «علم»، واختراع وسائل النقل السريعة والمريحة، يحتاج إلى «علم»، وحفظ الطعام أو مخزون الدم بالمستشفيات، يحتاج إلى «علم»، وذلك هو الجدير باسم «العلم»؛ لأنه ضروب من «القوة» التي يقوى بها الإنسان على إخضاع الأشياء لصالحه؛ أقول: لئن كان «بيكون» قد صاح صيحته تلك منذ أربعة قرون، لعل القوم أن يتجهوا بدراساتهم وجهة أخرى، يمارسون بها «الأشياء» ولا يقتصرون على قراءة ما تركه أسلافهم عنها في بطون الكتب، فالصيحة الجديدة في عصرنا - فيما يتصل بموضوع حديثنا - هي: «المعلومات قوة.» بمعنى أن سيطرة الإنسان - طفلا وغير طفل - على الأشياء، مرهونة بمقدار ما يجمعه من معلومات صحيحة عن تلك الأشياء، والوسيلة إلى ذلك تبدأ منذ الطفولة، بأن ندرب أعين الأطفال على أن «ترى» ما تراه بتفصيلاته، وأن ندرب آذانهم على أن تتبين في الأصوات أوجه الشبه وأوجه الاختلاف، ولكل حاسة أخرى وسائل تدريبها على أن تفعل فعلها، فمن أراد أن يلم بالعالم المحيط به، إلماما يضمن له مزيدا من المعرفة، ومزيدا من الدقة، كانت حواسه هي أبوابه ونوافذه، التي لا يملك سواها من نوافذ وأبواب.
Unknown page