336

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Genres

ويشعر بسمارك الشيخ برجوع شبابه إليه تجاه تلك النظرات المعادية، ويفكر مرددا سابق قوله بلسان الحال: «نجهل فوق جهل من يجهل علينا!» فيدعو إلى مقابلته رئيس تحرير جريدة نيوفري بريسه فيهاجم الحكومة جهرا بما لم يصنع مثله منذ أربع وأربعين سنة، وفي الماضي لام الملك على نذالته أمام الشعب، والآن يلوم الحكومة على حماقتها حيث يقول: «لا ريب في أن النمسة أفادت ما استطاعت من ضعف مفوضينا وعجزهم في المعاهدة التجارية، وكانت النتيجة عندنا أن أرى الآن في المقدمة أناسا كنت أدعهم في المؤخرة لما رئي من وجوب تغيير كل شيء، ثم إنني لا أرى ارتباطي في عهد تجاه أي رجل ذي منصب ولا تجاه خلفي، فجميع الجسور هدمت، وقطع الحبل الذي كان يربطنا بروسية، وقد عطلت برلين من السلطان الشخصي والطمأنينة.»

وفي برلين يستحوذ الغم على أولياء الأمور، وهؤلاء إذ لم يستطيعوا أن يعيبوا هذا «الشيخ الثرثار» خفية، وجب عليهم أن يقوموا بذلك علنا؛ ولذا تبدأ الآن جريدتا «المونيتور» بالمبارزة أمام ألمانية الهائجة على حين تنظر أوروبة إلى ذلك بعين الفرح والارتياح، وفي تلك المبارزة لا تصيب كل طعنة تصوبها الحكومة الهدف، وفي تلك المبارزة تبلغ كل قذيفة يوجهها الخصم غايتها.

جاء في صحيفة كابريفي: «لا نذكر وجود رجل دولة في تاريخ البلدان الأخرى، بله ألمانية، سلك مثل تلك السبيل بعد ترك منصبه، والذي يلوح أن الأمير لا يألو جهدا في نشر عدم الثقة معقدا بذلك سوق مركبة الإمبراطورية الصعب، وهل هذا من الوطنية؟ وتخونه ذاكرته، ولا أحد يستطيع أن يقدر مبلغ الأذى الذي يتأهب الأمير ليصيب به وطنه الخاص.»

وفي اليوم التالي يبدي بسمارك نفسه صحافيا بارعا، فيبدو معتقدا أن تلك المقالة من إنشاء رئيس تحرير تلك الجريدة المهاجمة، وبذلك يمكنه - مع احترام ساخر - أن يوجه سهامه إلى الحكومة غير المسماة فيقول: «إن من المستحيل أن يكون أناس محنكين مهذبين كأولئك الذين يسيرون شئون الدولة مسئولين عن مقالة صحافية سليطة مثل تلك المقالة، ويفترض أن ذلك قذف، ولا يسع الأمير إلا أن يرى من المضحك انتصاب رئيس التحرير بنتر فوق منصة الخطابة ليعظه، ولا شيء يسر الأمير بسمارك أكثر من تعقبه قانونا، ولا يجد الأمير محذورا في ختم عمله السياسي بتلك الخاتمة الروائية.»

ويظهر أن حنق الجمهور الألماني انقلب إلى ضحك بعد ذلك الجواب، بيد أن أولياء الأمور ببرلين فقدوا رشدهم غضبا، فحملوا على بسمارك وعلى نصف الأمة أيضا، فنشروا في ذلك التاريخ ما أصدر إلى سفارة فينة من إرشادات خسيسة، فبذلك أتيح لكل ألماني أن يقرأ في جريدة «رايخسانزيجر» كيف أن المستشار الجديد كان حريصا على إهانة سلفه، ويغلي دم الأمة، وفي البداءة عد مئات الألوف من الألمان عزل بسمارك عملا غليظا، ولكن مع الفائدة، فرأوا أن الإمبراطور قام بذلك عن دهاء وحسن ذوق، والآن يدرك كل واحد عطل الإمبراطور من هذا وذلك، ويسفر ذلك عن تبدد آخر شعور عدائي ضد بسمارك بطوفان من الهتاف الشعبي لم يتفق قبل ذلك لرجل في ألمانية غير متوج أو غير لابس بزة رسمية.

وكان على بسمارك أن يبلغ الثمانين من عمره قبل أن يفوز بالشعب الألماني، وبسمارك، نائبا، كان خصما للشعب، وبسمارك رئيسا للوزارة البروسية كان مكافحا للشغب، وبسمارك مستشارا للإمبراطورية كان عدوا للريشتاغ، وكان بسمارك في منزله وفي أملاكه الريفية يعيش بين أبناء طبقته الخاصة بعيدا من الطبقة الوسطى ومن ذوي الثقافة فلا تجد بين عشرائه أساتذة ولا رجال أعمال ولا أرباب فن، وبسمارك عاش بين السياسيين والأشراف ستين سنة، وبسمارك في كلتا الحربين على الأكثر، وفي حياته الزراعية كشريف على الأكثر؛ تنفس بمثل هواء هذا الشعب الذي عمل من أجل ذراريه عشرات السنين فشعر بوجوده.

واليوم تأتي جماهير كثيرة لتحيته في جميع الأماكن التي يمر منها في أثناء رحلته من فينة إلى كيسينغن، واليوم تلتمس المدن شرف استقباله استقبالا عاما، واليوم يرحب به جميع أقوام الألمان الذين قهرهم أو عاسرهم كأهل سكسونية وجنوب ألمانية، وتسخر أوروبة من منع حكومة بروسية مدينتي هاله ومغدبرغ من تكريم بسمارك وذلك حين كانت موسيقى كولبرغ الحربية مستعدة للعزف، فأخذت ترسل ألحانها راجعة؛ لكيلا تحتفل بعدو البلد، ولكن الفرح يعم ألمانية عند قراءة ما حدث في ينا.

فهنالك في السوق القديمة تحتشد المدينة والجامعة وفلاحو القرى المجاورة والأساتذة والولدان والنساء، ويستقبل رئيس الجامعة الأمير في بيت لوثر، ويخرج بسمارك إلى الباحة حيث كانت تشتعل نيران المعسكر الفرنسي منذ تسعين سنة فوجدها بسمارك مكتظة بالموائد الطويلة وما عليها من قناني الخمر والجعة وبالأغاني وآلات الطرب وبأهل هذه المدينة الألمانية الإقليمية المنتظرين المرحبين به ترحيبا روائيا المتشوقين إليه المتحمسين له.

وهنالك يتقدم هذا الطويل النجاد اللابس معطفا أسود ويطوف على الجموع ويلقي تسع خطب لا تشتمل واحدة منها على عبارة فارغة، ثم يلتفت إلى تمثال غوتزفون برليشنجن ويقتبس قول غوته الذي أجراه على لسان غوتز هذا جوابا عن وصف وكيل إياه باللص، وإليكه: «لو لم تكن ممثلا لإمبراطوري الذي أقدس له حتى في مثل هذا الوضع القذر؛ لحملتك على ابتلاع هذه الكلمة حتى تتخم أو تفزر بها!» وما كان ينطق بالكلمات الأولى من جملة غوتز الغليظة هذه التي ما انفك يرددها في حياته حتى تعالت أصوات الهتاف البالغ حد الجنون، ثم قال مستنتجا: «يمكن الرجل أن يكون تابعا مخلصا لأسرة مليكه ولعاهله ولإمبراطوره من غير أن يعتقد الحكمة فيما يأتيه عمال هذا العاهل أو الإمبراطور من التدابير، وإني غير معتقد وجود تلك الحكمة فيما يقوم به عمال ولي الأمر عندنا، ولا أكتم رأيي في ذلك في الحال والمستقبل!»

تلك اللهجة هي لإلقاء البهجة في نفوس أناس من الألمان جلسوا حول موائد أقداح مدت في ميدان عام ذات مساء من يوم صيف، غير مسئولين عما قيل بها، وهنالك حين عودته إلى عربته لم يقدر على الخطو لشدة الازدحام، فتبصر مئات الناس يحاولون لمس تلك اليد التي ظلوا يخشون شدة وقعها ثلاثين عاما فأصبح صاحبها الشيخ يمدها إلى الجميع للمصافحة، ويسكت عنه ارتيابه الفطري لقليل ساعات أو لبضعة أسابيع، ويسأل نفسه عن إمكان صدور أصدق الأقوال وأعمقها من هؤلاء العوام أكثر من صدورها عن طبقته الخاصة التي حسدته حينما كان قابضا على زمام الحكم فخانته ثم أسقطته في نهاية الأمر.

Unknown page