ويذهب بسمارك إلى فينة ويتم المفاوضات، ويضع عقد التحالف حتى التوقيع، ويجتنب بإصرار برلين وستيتن وبادن حيث يذهب الإمبراطور مناوبة؛ وذلك خشية التنافر المباشر، ويحاول الإمبراطور أن يدافع - مع ذلك - عن شرفه خطوة بعد خطوة، والإمبراطور؛ لعجزه عن حفظ سياسته لا يريد أن يزج باسم روسية في معاهدة تعقد ضدها، والإمبراطور يرى أنه خسر اللعب، فيتألف من ذلك أسطورة ألمانية.
ويكتب العاهل المغلوب بعد ذلك قوله: «ما فتئت منذ أربعة أسابيع أجاهد ضد عبارة وردت في معاهدة فينة ظهر لي أنها مخالفة لكرامتي وواجبي، وقد أذعنت أمس مساء بعد أن أدليت بكل دليل، وذلك على أن يبلغ إلى روسية ما أوجب اتخاذ تلك الخطوة من الأسباب، وأرى أن قوتي الأدبية كسرت بأسرها، ولا أدري ماذا يصيبني! وسيعدني القيصر إسكندر ناكثا للعهد ما دمت قد كتبت إليه وقلت له غير مرة ما أملاه علي الأمير بسمارك من عزمي على صيانة وصية الآباء المئوية.» وهنا نتثمل هذا الإمبراطور الشيخ الذي ولد في القرن الثامن عشر ذاكرا ما كان منذ خمس وستين سنة من دخوله باريس مع القيصر إسكندر الذي هو جد للقيصر الحالي، وذلك قبيل إرسال نابليون إلى جزيرة إلبة.
والآن سياسته هي الصحيحة وإن كان لا يستطيع فرضها، وليس ذلك لأنه أنفذ بصيرة من المستشار، بل لأنه وهو المستمسك بعروة التقاليد وهو المعتمد على قرابته الأسرية بروسية لا يمكنه أن يتخلص منها بلا إيلام نفسه، ولأن البلاد لا تنفصل عنها بلا خطر، وهو لبلوغه من الكبر عتيا ولتصلب روحه أكثر من تصلب أعضائه؛ يبصر نتائج ذلك في الوقت العتيد أحسن مما يبصره غيره، ولم يسطع أحد في عشرات السنين القادمة أن يعيب بسمارك عيبا قاطعا لتقريره محالفة النمسة، ولا يستطيع أحد في الوقت الحاضر أن يعيب بسمارك بأقطع مما فعله ولهلم بالملاحظة الآتية التي كتبها على هامش إحدى رسائل المستشار بسمارك، فقد جاء فيها:
ولم يجب علينا أن نؤيد النمسة ضد روسية بكل ما لدينا من قوة على حين نكتفي بحياد النمسة إذا ما هاجمتنا فرنسة؟ فما علينا أن نصنعه للنمسة ضد روسية يجب على النمسة أن تصنعه لنا ضد فرنسة ... وتلك إذن قسمة ضيزى!
1
ولا جرم أن المعاهدة المقترحة ستلقي روسية بين ذراعي فرنسة، وستغذي شوق فرنسة إلى الانتقام! وأي وضع يمكن فرنسة أن ترجو وقوعه أكثر من جعل ألمانية والنمسة بين نارين؟ ولذا يجب صون تحالف الأباطرة الثلاثة بدلا من القضاء عليه في سبيل تحالف إمبراطورين، وإذا ما علم أمر المعاهدة المقترحة أو ظن وجودها اتحدت فرنسة وروسية من فورهما لا محالة!
وقد نظر بسمارك في كل واحد من هذه البراهين فرفضه، والذي يظهر أن الأحاسيس هي التي حفزته إلى تغيير سياسته أكثر من أن يحمله الحساب عليه، وليس ما قاله كارل ماركس عن غورشاكوف في كتاب أرسله إلى إنجلس غير صدى لما قاله بسمارك عنه، وإليك كلمة ماركس: «إن أبرز أمر في بسمارك هو الوجه الذي ظهر به عداؤه لروسية، وبسمارك أراد إسقاط غورشاكوف ونصب شوالوف في مكانه، وبسمارك إذ لم يوفق لذلك قال ها هو ذا العدو! وبسمارك وهو ينتظر، أبصر في سحب الشرق ما يؤيده، فبدا رجل الساعة مرة أخرى، وستجدد ميزانية الحديد العسكرية في الريشتاغ القادم، ومن المحتمل أن يصوت لهذه الميزانية إلى الأبد.»
وهنالك سبب آخر، وهو عاطفي أيضا، وهو أن بسمارك قبل ذلك ما كان ليطلب موافقة الشعب ليسوغ حلفا، ولا لينظر إلى رفض الشعب لينقض حلفا؛ فالآن يشير بسمارك إلى الرأي العام كثيرا، ويبتهج جنوب ألمانية بذلك في الحقيقة، وتوافق جميع الأحزاب في الريشتاغ على سياسته، وهذا ما أبصره وأراده ما دامت أكثريته متذبذبة.
وهنالك سبب ثالث لتغيير السياسة تجده في مزاج بسمارك، وبسمارك قال للوسيوس: «إن من الخطر محالفة عاهل مستبد يحكم في أمة مضطهدة شبه متبربرة، على حين ترى فوائد كثيرة في محالفة دولة ضعيفة نسبيا كالنمسة.» وقال له أيضا: «إذا خيرت اخترت النمسة التي هي ذات نظام دستوري والتي هي دولة مسالمة واقعة تحت بنادق ألمانية، مع أنه لا سلطان لنا على روسية.» ومتى كان بسمارك ينفر من محالفة مستبد قبل ذلك؟ ومتى فضل بسمارك قبل ذلك أن يشد أواصر صداقة مع دولة دستورية؟ ومنذ كم كانت النمسة سلمية أكثر من روسية؟ ألا إن ذلك هو استهواء ذاتي لكتم أعمق الأسباب عن نفسه وعن الآخرين، وما فطر عليه من ميول استبدادية فيفسر رغبته في حليف «ضعيف نسبيا»، و«واقع تحت بنادق ألمانية» ولا سيما عند ظهور وزير هذا الحليف مستعدا للطاعة.
وإن تلك المشاعر المختلفة أو تلك الأخيلة التي تساور ذلك القطب السياسي القائمة عظمته على الحساب الدقيق، هي الناظمة لتغيير سياسته واستحسانه ذلك ثم تصميمه على ذلك، ولأن يرى بسمارك وجوب اختياره مطلقا مناقض لمبادئه القديمة، ولأن يرى وجوب اختياره النمسة أمر جالب للنوائب، وما أتمه فلا يعدو حد الوقاية ضد دولة استطاع حتى الآن أن يكسب صداقتها فأقصاها، وما ناله في هذه المرة فأقل مما كان ينتظره تقريبا.
Unknown page