289

Bismarck

بسمارك: حياة مكافح

Genres

ولم يقم بسمارك بحرب فتح قط ، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب للمرة الأولى ضما لشليسويغ، بل ذهب إليها تحويلا للريح القومية إلى بروسية، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب في المرة الثانية ضما لهانوفر وهس، بل ذهب إليها إخراجا للنمسة منهما، وبسمارك لم يذهب إلى الحرب للمرة الثالثة ضما للألزاس، بل درءا لإنذار فرنسة، ولكن بسمارك بعد ثلاثة انتصارات جاوزت حدود آماله سرعة واتساعا وقف أمام الخريطة وأخذ ما عرضه الطالع عليه.

وكان بسمارك معلما عظيما، فلا يرى أن يشد الوتر كثيرا، نعم إنه لا يرمي بالسهم إلى مسافة قصيرة جدا، ولكنه لا يرمي به إلى مسافة طويلة جدا، فلم يخطئ بسمارك في المسافة حول الأمور الخارجية قط، وقد حاولنا أن نوضح سبب عطله من حسن تقدير المسافة في الأمور الداخلية، وهذا ما فكر فيه، فقد قال في سنة 1866: «أرى المسائل الخارجية غاية بنفسها، وهي لهذا السبب أهم من كل شيء في العالم.» ومن حسن حظ بسمارك أن كان يجد الحروب حاضرة عند احتياجه إليها، غير أنه لم يسئ استعمال تفوقه في أية مرة بلوغا لفتوح، وبسمارك قد صان السلم في أوروبة مدة عشرين سنة، وإذا ما وجد الأعقاب انتقاص بعض مزاياه لم يسعهم سوى الإقرار بأنه حفظ السلم في أوروبة مدة عشرين سنة.

وإذا كان بسمارك قد حفظ السلم في أوروبة مدة عشرين سنة فإنه لم يفعل هذا لأسباب إنسانية، أو لأنه خاف أن يخسر سمعته، وإنما صنع هذا معتقدا أن أوروبة عادت لا تقنع بتمثيلها دور المحايد المشاهد، متوقعا قيام محالفات ضد ألمانية، مبصرا وقوع محالفات دفعه خطرها إلى رغبته في العدول نظريا عن ضم الألزاس سنة 1869، وما كان من الطريق التي سلكها بسمارك، توا أو التواء، تجاه فرنسة بعد سنة 1871 فيدفع إلى التفكير في وضعه السياسي بنقولسبرغ بعد ما كان من غموضه بفرساي، قال بسمارك: «إننا نحتاج إلى ترك فرنسة إيانا هادئين، فإذا لم تود فرنسة مسالمة لنا وجب علينا أن نحول دون وجود حلفاء لها، ولا تكون فرنسة خطرة علينا ما خلت من حلفاء، ولا خطر على ممالك أوروبة العظمى من بلد جمهوري عند تضافرها، ومن الصعب على كل جمهورية فرنسية أن تجد لها حلفاء ملكيين ضدنا.»

وهنا يحدثنا بسمارك عن السبب في وجوب منعه قيام محالفات ضد ألمانية، وعن السبب في وجوب سعيه إلى قيام محالفات تكون ألمانية عضوا فيها، وبسمارك أراد فيما بين سنة 1850 وسنة 1870 أن تظل بروسية على حدتها، وبسمارك أراد ذلك حتى يشترى عونها بثمن عال في الأزمات الكبيرة، وبسمارك ينشد الآن عقد محالفات لألمانية القوية، وبسمارك كان ضعيفا في الماضي فود البقاء منفردا، واليوم غدا بسمارك قويا فصار يبحث عن أصدقاء، وتبقى فكرته الأساسية هذه صحيحة حتى بعد انقضاء عهده.

قال بسمارك: «إن من مصلحتنا حفظ السلم، مع أن لجيراننا في القارة من الرغائب الخفية أو الرسمية ما لا يقدرون على تحقيقه إلا حربا، وقد أثار تحولنا إلى دولة عظيمة من المخاوف ما يجب علينا أن نبدده بما نبديه من نفوذ سلمي شريف، ومن السهل على الإمبراطورية الألمانية أن تحترم حقوق الدول الأخرى؛ وذلك لما فطر عليه الخلق الألماني من واقعية من ناحية، ولما لا نحتاج إليه من توسيع رقعة البلاد، ولما نراه من عدم استطاعتنا الوصول إلى مثل هذا التوسيع بغير تقوية عناصر بلادنا المنحرفة عن المركز، من ناحية أخرى.

وقد قام مثلي الأعلى في كل حين على ضرورة اكتساب ثقة الدول العظمى بعد أن تمت الوحدة ضمن الحدود التي بلغناها، وعلى وجوب جعل السياسة الألمانية سلمية عادلة بعد إزالة جور الزمن ورأب صدع أمتنا، وإني حين أنعم النظر في المنازعات الدولية التي لا تسوى بغير الحرب لا أعد هذه المنازعات مسائل شرف كالمبارزات التي تقع بين الطلاب.»

ويروي تيدمان أن بسمارك بعد سنة 1870 صرح غير مرة بأنه أوروبي قبل كل شيء، ومن ينظر إلى الخطوط العريضة في سياسته الخارجية يبصر أنه أوروبي فعلا؛ فهو لم يبرز قوميا قط، وهو لم يعتقد قط، وهو لم يزعم قط أن شعبه هو الشعب المختار، وهو «كان مجردا من الوطنية المبتذلة العامية»، وهو قال لأحد الوفود: «لقد عددت أهل الألزاس دوما خيار الأمة الفرنسية؛ فهم أصلح الجنود، وهم جامعون لمزايا كلتا الأمتين، ولو كنت قادرا على تزويج الفرنسيات بأحسن الألمان لأخرجت عرقا رائعا من الآدميين.»

وود بسمارك أن يبدي لتيار أطيب تمنياته في عيد ميلاده، فسأل هذا القطب الفرنسي بواسطة السفير قبل فعل ذلك عن إمكان تقليل حظوته الشعبية بسبب رسالة كتلك يرسلها إليه بسمارك، ويموت تيار فيطلب بسمارك من أصدقائه أن يشربوا نخب ذكراه، وكان يمكن بسمارك أن يضرب فرنسة مرة أخرى في سنة 1875؛ وذلك لما كان من استعداد فرنسة الحربي في ذلك الحين ولما كان من الهتاف لحرب الانتقام عبر الحدود.

ولكن بسمارك داس الشرر الذي ينذر بنار الحرب قائلا: «إن من المكروه أن تهاجم فرنسة منعا لها من أن تتنفس مرة أخرى، وهجوم كهذا يكون ذريعة صالحة تتمسك بها إنكلترة لرفع عقيرتها انتصارا للإنسانية، وهجوم كهذا يؤدي إلى انتقال روسية من سياسة صداقة بين العاهلين إلى سياسة مصالح الدولة، ودليل ذلك هو ما أبدي من ريب على ضفاف نهر النيفا في ترك الأمور تسير إلى أبعد مما وقع بلا تدخل».

وفي ربيع سنة 1875 كان يلوح حصار ألمانية بحلف كالذي حدث سنة 1915 أمرا منتظرا، وكانت الذريعة في مكافحة الكنيسة، وقد تبنى فرنسوا جوزيف وفيكتور إمانويل وليو بولد الثاني قضية الكاثوليك الرومان، ومد غورشاكوف عينيه إلى البلقان فمال إلى التفاهم مع فرنسة، حتى إن إنكلترة استعدت لمصادقة روسية عن سوء مزاج تجاه ألمانية، وهكذا كان الخطر يحف بنظام بسمارك، وهكذا يواجه بسمارك هزيمة دبلمية للمرة الأولى، وماذا يصنع؟ إن أول عمل أتاه هو جعله جميع المطاحن تدور بمقالة عنوانها: «هل الحرب قريبة الوقوع؟»

Unknown page